الجمعة، 29 نوفمبر 2013

نصرة الشريعة هل تصبح كلمة حق يراد بها باطل؟




نصرة الشريعة

هل تصبح كلمة حق يراد

بها باطل؟




د فنوش

بقلم / د . يونس فنوش


لم يعد مقبولاً أن نواصل الصمت والمداراة وتهيب المكاشفة وقول ما نؤمن به.. ولئن كان من حق مجموعة أن تسمي نفسها "أنصار الشريعة"، وتتخذ شعاراً لها ما تظن أنه تطبيق لما تراه هي "شرع الله"، فإن من حقنا أن نوجه إليهم الأسئلة التالية:


-     ماذا تقصدون بالضبط بالشريعة وشرع الله؟


-     وهل تجدون في ما ترونه شرع الله اتخاذ سبيل العنف والإرهاب وسيلة مشروعة لفرض رأيكم على المجتمع كله؟


-     وإذا كنتم كما تسمون أنفسكم أحياناً (جماعة دعوية)، فما رأيكم في قول الله تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"؟


هذه بعض الأسئلة التي تفرض نفسها عند التطرق لموضوع إخواننا الذين يسمون أنفسهم "أنصار الشريعة"، من حيث ما يطرحون من أفكار وآراء، ومن حيث ما يمارسونه من سلوك عملي، لا يتجه إلى امتلاك السلاح بمختلف أنواعه وأحجامه فحسب، بل يصل إلى حد المجاهرة به واستعراضه على الملأ، ثم استخدامه بالفعل في ترويع الناس وقتلهم.


وإننا نبدأ بالحديث عن هذا المفهوم (الشريعة)، فمن حيث المبدأ يفترض أننا جميعنا، من جهة أننا مسلمون، نؤمن بالشريعة التي أنزلها إلهنا سبحانه وتعالى، وارتضاها لنا دينا ودنيا. ولكننا في الوقت نفسه نحتاج إلى أن نتفق على المقصود بهذا التعبير (الشريعة): أهو مقاصدها الكلية أم أحكامها التفصيلية؟ وعندما نقصد أحكامها التفصيلية، فهل نقصد الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، التي لا يملك أحد أن يجادل في إلزامها، وأن من ينكرها أو يخالفها، فهو مخالف لما هو ثابت وقطعي من أحكام الشريعة، ومن ثم يجوز وصفه بالمخالف أو المبتدع أو الفاسق، حسب مستوى المخالفة ونوعها..أم أننا نقصد الأحكام الاجتهادية التي تركتها الشريعة نفسها، كما أنزلت على رسولنا الكريم وطبقها في حياته وطبقها من بعده خلفاؤه الراشدون، غير مقيدة بتفسير أو رأي واحد، وفتحت بشأنها مجالاً واسعاً رحباً للرأي والاجتهاد؟


هذه التساؤلات بالتحديد تمثل لب الإشكالية السياسية والفكرية التي توجد بيننا وإخواننا الذين يسمون أنفسهم (أنصار الشريعة) ولا يعترفون إلا بدولة تطبق ما يسمونه (شرع الله).. وبالطبع هم يرفعون هذا الشعار، مدركين أن كثيرين ممن يسمعونهم سوف يجدون حرجاً في التصريح بأنهم يرفضونه أو لا يؤمنون به، فيجدون أنفسهم وقد انحشروا في خانة الخارجين عن الملة، والرافضين لتحكيم شرع الله..


ومن ثم فعلينا أن نتفق وإياهم أولاً على ما يقصدون بالشريعة وشرع الله، حتى نحدد إن كنا نتفق معهم أو نختلف.. فنحن، وأزعم ألا أحد في الشعب الليبي كله، يقول بأنه يرفض تطبيق الشريعة أو تحكيم شرع الله.. فنحن كلنا مسلمون، نشهد بألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ونؤمن بأن شريعة الإسلام قد وضعت لنا أحكاماً قطعية الثبوت والدلالة، في مصدري التشريع الأساسيين: كتاب الله وسنة الرسول، وأيدها إجماع العلماء والفقهاء وعامة


المسلمين عبر العصور، وهذه أحكام ملزمة لنا جميعاً، حكاماً ومحكومين، وليس لأحد أن يجادل فيها أو ينكر مشروعيتها وإلزاميتها...


أما ما عدا ذلك من المسائل والشؤون فقد تركتها الشريعة دون تحديد تفسير أو تأويل واحد لها، متفق ومجمع عليه، لحكمة تجسد الفكرة الجوهرية التي تتمثل في أن تكون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومن ثم فقد تركت فسحة واسعة لتكييف الأحكام بما يحقق المصلحة العامة، ويتواءم مع حاجات كل مكان وكل زمان.. وأقرت للمسلمين حقهم في الرأي والاجتهاد في استنباط الأحكام التي يحتاجونها لمواجهة المسائل الجزئية التي تواجههم في حياتهم المتطورة المتغيرة، بتغير الأزمان والحاجات والمصالح.


وإني لأعجب من إخواننا الذين يزعمون الانتساب إلى الشريعة، كيف لا ينظرون إلى سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي علمنا أثناء حياته، كيف أن الشريعة لم تشمل بأحكامها القطعية غير القابلة للتأويل أو الاجتهاد إلا جانباً محدوداً من شؤون حياتنا، وأنها تركت لنا فيما عدا ذلك أن نجتهد برأينا، وأن نتوخى الصواب وما يحقق المصلحة، بل إنها حثتنا على بذل الجهد في الرأي والاجتهاد، ولو تبين في الواقع ومع التطبيق خطأ رأينا أو اجتهادنا، وجعلت لنا على مجرد الاجتهاد وبذل الوسع في تحري الصواب والمصلحة أجراً.


ولقد كنت أحسب أننا لسنا بحاجة إلى إيراد الأمثلة العديدة من أقوال وأفعال رسولنا الكريم التي تبين لنا كيف أن الرسول كان يجتهد برأيه في المسائل التي لم ينزل فيها حكم قطعي من الله سبحانه وتعالى، ثم لا يجد حرجاً في التراجع عن ذلك الرأي، حين يتبين له أن ثمة رأياً أصوب منه.. وإن لنا في هذا أقوى دليل على أن المسائل التي تركت للرأي والاجتهاد لا معيار فيها إلا مدى قربها أو بعدها عن تحقيق المصلحة، وإبعاد المفسدة..


ولقد رأينا كيف طبق خلفاء رسول الله –رضوان الله عليهم- هذه الشريعة السمحاء، ورأينا كيف كانوا يتشاورون فيما يقع لهم من حوادث ومسائل، ويتبادلون الرأي، وكيف كانوا يختلفون في الاجتهاد، على الرغم من أنهم جميعهم كانوا يستندون في اجتهاداتهم إلى أدلة مستقاة من القرآن وسنة الرسول، ثم لا يجد أحدهم أي حرج في الاعتراف بخطأ رأيه، إذا تبين له صواب رأي أبداه آخرون من إخوانه.


وكنت أحسب أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بأن هذه المساحة من حرية الرأي والاجتهاد هي التي أنشأت لنا ذلك التراث العظيم من الفقه، الذي وثق لنا اجتهادات الفقهاء في مختلف مسائل الحياة التي عرضت لهم، ووثقت لنا ما هو أعظم دلالة في هذا السياق الذي نحن فيه، وهو أن أحداً من أولئك الفقهاء أو المجتهدين لم يخطر بباله أن رأيه هو الصواب، وأن آراء المختلفين معه خطأ.. ومن باب أولى لم يخطر ببال أحد منهم أن يكفر المختلفين معه في الرأي والاجتهاد أو أن يحكم بخروجهم من ملة الإسلام.. وإننا لا نزال حتى هذه اللحظة لا نجد في مجال الاستشهاد أو التدليل على مشروعية الاختلاف في الرأي والاجتهاد من قولة الإمام الشافعي التي قال فيها: رأيي صواب، يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، يحتمل الصواب". ولقد كانت هذه الكلمة أروع وأرقى تجسيد لمفهوم الديمقراطية التي ليست، في جوهرها، سوى آلية تنظيم الاختلاف في الرأي بين أبناء المجتمع الواحد.


ولعلي هنا أصل إلى نقطة مفصلية في حواري هذا مع إخواننا (أنصار الشريعة)، فقد ظللنا نسمع منهم رفضهم للديمقراطية، لأنها –في نظرهم- كفر وخروج عن ملة الإسلام، ولأنها نظام مستورد من الغرب (الكافر).. ولأنها –كما يفهمونها- فكرة ترفض الإيمان والدين، ومن ثم فهي ترفض الشريعة..وما إلى ذلك.


وإني لا أبدع شيئا من عندي إذا ذكّرت بأن الديمقراطية ليست فكراً ولا إيديولوجية، وليست دينا ولا عقيدة، وإنما هي آلية لإدارة الاختلاف في الرأي بين أبناء المجتمع الواحد، بما يسهم أو يساعد في تبين الرأي الذي تتفق عليه أغلبية أبناء المجتمع، فيكون هو الأحق بالتغليب. وفوق كل ذلك فإن الديمقراطية، من خلال تأسيسها على كفالة حقوق المواطن وحرياته، وقيامها على آليات التدافع السلمي بين الآراء، قد تأسست على شريعة الإسلام، من خلال القرآن الكريمة والسنة الشريفة، ومن خلال تراث الممارسة الفكرية والعملية، ومن ثم فيحق لنا القول إن الإسلام هو أرقى ممارسة للديمقراطية، وأن الإسلام هو الذي أسس الديمقراطية، قبل قرون عديدة من وصول الغرب إليها، وتطويرها حتى بلغت ما بلغته اليوم من مستوى راق، بتنا –نحن المسلمين- نطمح إلى الوصول ولو إلى قدر يسير منه.


فما الرأي إذن في هذه الدعوة المطلقة تحت شعار (نصرة الشريعة)؟ وهل هي كما عبرت في عنوان مقالتي هذه، دعوة ظاهرها الحق الذي لا مراء فيه، أي تطبيق شريعة الله، ولكنها تنطوي على باطن في منتهى الخطورة، سوف ينتهي بنا بالضرورة إلى (باطل) محقق، هو مجافاة روح الشريعة نفسها، من خلال زعم البعض أنهم وحدهم من يملكون الرأي الصائب، وأن كل من عداهم خارجون عن (ملة الإسلام)، وقولهم إن المجتمع الذي لا يطبق فيه (شرع الله) ، بالطبع كما يفهمونه هم، هو مجتمع (كافر) ومن ثم يحللون لأنفسهم الخروج عليه، ومحاربته، بالقوة والسلاح.


وبخلوصنا إلى هذه النتيجة، نجد أنفسنا إلى نخلص إلى المفهوم ذاته الذي انتهى إليه الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي –كرم الله وجهه- ورفعوا شعار (لا حكم إلا لله)، وطفقوا يمارسون تحته، من خلال فهمهم المحدود والقاصر، أبشع أنواع الخروج عن حكم الله وروحه، بتحليل قتل المسلم الذي لا يقول برأيهم أو لا يسلم به.


وإني ما زلت آمل أن نتمكن من خلال الحوار مع قادة (أنصار الشريعة) ورؤسائهم، إلى بلوغ قدر من الفهم المشترك لما يقصدونه هم وما نقصده نحن من الشريعة، ومن فكرة تحكيم (شرع الله)، والأهم من كل ذلك أن نبلغ وإياهم اتفاقاً على تبني تلك الآلية السمحة الراقية التي شرعها لنا ربنا -سبحانه وتعالى- بقوله [في الآية 125 من سورة النحل] (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، وقوله (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله [في الآية 34 من سورة فصلت] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)..عسى أن يهدينا ربنا إلى سواء السبيل، وإلى ما يحبه ويرضاه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق