الاثنين، 15 فبراير 2016

خارج القضبان ::: بروين حبيب


خارج القضبان

بروين حبيب



«حيثما تكون سعيدا فذلك بيتك» يقول الكاتب الفرنسي مارسيل جوهاندو، وحسب مقولته لم يعد المنفى منفى ولا الوطن وطنا، فقد أخذت هذه المعطيات مفاهيم جديدة مرتبطة بالحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية للشخص.
أمّا البيت الشهير الذي نحفظه عن ظهر قلب «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة» فيبدو أنّه مجرّد دعاية سياسية على الطريقة العربية، لأن البيت حين قيل لم يقل في سياق حب الوطن والوفاء له، ويمكن الرجوع لتاريخ قائله الشريف قتادة أبو عزيز بن إدريس.
ولأن المقولات عندنا ملغمة دوما بمعطيات مبطنة، فإن المنفى في مفهومنا العربي يغطي حكايات لا نهاية لها. فكثر، خاصة في هذا العصر، لم يكن المنفى بالنسبة لهم سوى البديل الحقيقي للوطن. وحين نبلغ هذه المرحلة مع تداخل المعاني بين مكانين فهذا يعني حتما أن الوطن هو المكان الذي تشعر فيه بكرامتك محفوظة وبأحلامك تتحقق وبالأمان الذي لم يوفره لك بلدك الأصلي.
في الأدب العربي الحديث نقرأ تجارب أدبية كثيرة لكتاب عاشوا في المنفى، وانشطارهم بين قطبين يشملان مكانين وثقافتين ونظامين وتفاصيل أخرى توقعهم في مقارنات لا تنتهي بين ما خبروه من حياة في المنفى وما عانوه في الوطن مع حنين قاتل للهناك.
بشكل ما هناك خيانة واضحة من طرفهم للأمكنة التي منحتهم الحرية ولذة العيش، والتحليق خارج قضبان الأوطان المسيجة بالرداءة، لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا النكران خيانة للمنفى المحترم؟ وهل الاندماج مع أهل هذا المنفى خيانة للوطن الذي لم يعرف احتضان أبنائه؟
ترى ما رأي اللاجئ اليوم الذي يخرج من وطنه أعزل ومعدما تماما فقط من أجل البقاء على قيد الحياة؟ ماذا قدمت لهم أوطانهم ليقولوا «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة»؟ وهل يمكن لبيت شعر كهذا أن يطبب الجرح الغائر في أعماقهم وهم يتجرعون يوميا وجع فقدان الأحبة، ووجع الذل والإهانات من أجل لقمة العيش، ووجع الخروج من أوطانهم كحثالات مرفوضة عند «بلاد العرب أوطاني»؟
منذ زمن بعيد كانت تجربة كتاب المنفى مخيفة في ازدواجيتها، أقلها ما قرأته لكتاب عرب عاشوا في المهجر يبتهجون بإضافة منافيهم إلى أسمائهم في نهاية مقالاتهم، ذلك أن المنفى أصبح «العلامة التجارية» التي تسوق أدبهم وكتاباتهم، وقد تجعل من مكافآتهم المادية أكثر بكثير من الكتاب المحليين مواطنيهم. وفي هذا التقدير المادي لكتاب غادروا أوطانهم نحو بلدان منحتهم الاستقرار المادي، ما يحيلنا إلى أن الكاتب يقاس أيضا بمستواه المادي ولا يقاس بمستواه الأدبي.
يبدو هذا الاستنتاج خطيرا، لكنه مطروح، وأتمنى أن يُثرى من طرف قرائي لأنني ابنة هذه العائلة «الثقافية» بكل حسناتها وسيئاتها، ولمست هذا التقييم المجحف في حق كثيرين من خلال احتكاكي بهم. كما لمسته في تجارب سابقة قرأت عنها. تجربة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة نموذجا، إذ أن المهجر رفع من مكانة جبران كثيرا، مع أن ميخائيل نعيمة كان الأقوى كنص ولغة، حسب آراء معاصريهما، ونقاد معروفين آنذاك.
من جانب آخر يمكن الاطلاع على تجربة الكاتب عبد الرحمن منيف التي رواها في كتابه «الكاتب والمنفى»، ومن خلال ما ورد في حوارات أجريت معه. وتجربة عبد الرحمن منيف مع المنفى تبدو نسبية اليوم مقارنة مع كتاب آخرين.. كيف؟ منيف سعودي من أم عراقية، ولد في الأردن، تعلم في العراق، ثم في القاهرة، ومنها إلى بلغراد، وعمل في دمشق وأقام فيها، ثم مكث في بيروت فترة ومنها إلى العراق مرة أخرى، ثم باريس وأخيرا حط الرحال في دمشق التي أسس فيها عائلة مع زوجة سورية. فقد احتضنه العراق، رغم أن كتابا عراقيين فروا منه بحثا عن مكان آمن لهم ليقولوا ما يريدون، صحيح أن خروجه من العراق لم يكن عاديا، بل ارتبط بمواقفه، لكن هذه الفترة مهمة في مسيرته الحياتية والأدبية. عاش في القاهرة وأيضا احتضنته، رغم أنها لفظت بعض كتابها، وتعرض بعضهم لمضايقات متعددة، بدءا من مضايقات النظام إلى مضايقات الإسلاميين، إلى مضايقات القضاء.عاش في دمشق وفضل دمشق عن باريس وعواصم غربية أخرى، مع أن دمشق كانت بالنسبة للبعض المكان الأكثر حظرا للحريات، وهنا يبدو منيف محظوظا أكثر من كتاب سوريين عانوا من الرقابة والنظام آنذاك في عقر موطنهم.
فيكتور هوغو يقول: «لا يهم إن عاش الجسد في ضيق، المهم أن يعيش الفكر في فضاء حر» ولهذا نجد فئة واسعة من الناس سواء كانت مبدعة أم لا تعيش منفًى من نوع آخر. المنفى الذي يحيط بك حين تكون مختلفا عن غيرك، بحيث تشعر بأنك خلقت في المكان والزمان الخاطئين.
ألا يحدث ذلك؟ حين تشعر بالاختناق بين أهلك وعائلتك، حين تتلفظ بكلمة فترى الأعين تتفحصك إن كنت في عقلك أم أنك مجنون أو مريض؟ يحدث ذلك كثيرا، وأنت تحت المراقبة من أهلك وجيرانك وأناس لا تعرفهم في الطريق، كلهم يقومون بوظيفة تحويل حياتك إلى جحيم. يحدث حين ترى أمرا لا أخلاقيا يحدث أمامك وحين تتدخل يزجرك الجميع… تبدو غريبا بتصرفاتك الراقية بين من تعتبرهم أبناء وطنك، ويحدث أحيانا حين يتبرأ منك «أبوك» مثلا، فقط لأنك قمت بشيء لا يناسب مزاجه… تهوي إلى القاع تماما وتشعر بأنك لا شيء حيث أنت. تٌنسَفُ «كُلّك سوا» بسبب زلة صغيرة، بسبب كلمة، أو بسبب نميمة لا أساس لها من الصحة. هذا وطنك أحيانا، إن لم يكن وطنك دائما… وهذا ما يجعلك تبحث عن منفًى يحررك من قضبان وهمية صنعها الآخرون حولك. وإن لم تستطع فحتما ستصنع منفاك الخاص في رأسك… أو منفاك السري في أدبك. المنفى أحيانا وطن حقيقي، ولكننا نجحف في حقه فنسميه منفًى إلى الأبد.
والصراحة تقال، شيئا فشيئا ومن خلال أسفاري واحتكاكي بالناس اكتشفت أن هذين المصطلحين طور الانقراض، فنحن ننتمي للأرض، وهي وطننا أما الأمكنة الصغيرة فيها فهي متاحة للجميع، وأقربها إلى قلوبنا تلك التي نجد فيها الدفء والمحبة وسعادة قلوبنا.
وقد قلت دوما إن الصداقة وطن، وقد عنيت دوما ما قلت. فحيثما لك صديق فأنت محاط بما يكفيك لتكون سعيدا، أما الأماكن الخالية من الأصدقاء فهي أماكن قاحلة حتى إن كانت جميلة وصالحة للحياة.
ولعل المحطّة الأخيرة من مقالتي اليوم تختصر مفهومي الخاص للصداقة، لكنها أيضا محطّة حقيقية تحيلنا إلى فكرة الأهل والأحبة، فوحدهم يصنعون أوطاننا ويحددون مفهوم الوطن على طريقتهم، فحيث يكون الأهل نشعر بأن هناك الوطن، وهذا ما يعتقده أبناء المهاجرين من الجيل الأول والثاني، إذ يستحيل أن تقذف بهم إلى بلدهم الأصلي على أنه وطنهم الحقيقي، ففي غفلة الأهل الذين تركوا أوطانهم لأسباب عديدة، أنجبوا مواطنين لمنفاهم، وحوّلوا أوطانهم إلى منافي لهم…
إلى هنا وللحديث بقية …
فالعالم يتغير بسرعة فائقة ولا يمنحنا مجالا لوضع نقطة نهاية.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق