في
ظني أن الأدب العربي ينتمي إلى مجموعة الآداب القديمة: اليونانية
واللاتينية بل والمصرية القديمة والصينية والهندية. وأعني بالأدب العربي
هذا التراث الأدبي الذي حفظه لنا الرواة والمؤلفون وأبدعه اللسان العربي
بين القرنين الخامس والثالث عشر الميلاديين. وقد تحلّ هذه النظرة كثيراً من
المشكلات، فعلى الذين يهاجمون النظم في الشعر العربي أن يذكروا هزيود
وكتابه «الأعمال والأيام» الذي هو مفكرة راعٍ لأيام الحرث والبذار، وعلى
الذين يشجبون ألفية بن مالك أن يذكروا أن اليونان كانوا ينظمون معظم
معارفهم شعراً حتى الجغرافيا والفلك، لأن النثر لم يكن قد استقل بعد بعالمه
وملامحه الفنية. وليذكروا هوراس وكتابه «فن الشعر» في البلاغة. وعلى الذين
ينعون على الأدب العربي افتقاده فن الرواية الحديثة أن يذكروا انها لم
تنشأ إلا في القرن الثامن عشر. إن الأدب العربي إذن هو أحد الآداب
الكلاسيكية الكبرى، فيه طابعها وله عالمها، وهو يقف بينها معتزاً بأصالته
ووجوده وإسهامه الحي في تطوير التجربة الأدبية في العالم. وهنا لا نظلمه
ولا نحابيه، لا نظلمه حين نحاول أن نطبق عليه قواعدنا الحديثة، ولا نحابيه
حين نحاول بالزيف أن نتلمس فيه ما لم يعرف، وما لم يكن من شواغله، وحين
ندافع عن سماته متوهمين أنها عيوب، وما هي إلا سمات كل أدب عرفته الدنيا
قبل عصر النهضة.
لقد
تغير العالم كثيراً منذ عصر النهضة. فتميز الشعر عن النثر، واستقل النثر
بعالمه، ووجد نقاد جدد غير أرسطو الذي عاشت عليه الحضارات اليونانية
والرومانية والعربية، ووجدت فنون محدثة كالقصة القصيرة والرواية، وطولب
الشاعر أن يكون كل ما يقوله شعراً. ومرت أوروبا بعصر التنوير (القرن الثامن
عشر) وعصر الرومانتيكية (القرن التاسع عشر) وعصر الاضطراب في القرن
العشرين، وتغيرت صورة الأدب تغيراً حاداً جذرياً، وأعيد النظر في التراث
الأدبي كله، بل وأمتد هذا التغير إلى كل الفنون بشكل عام، مثل فنون التصوير
والمسرح، ونشأت فنون جديدة كالسينما. واتسعت أبعاد التجربة الإنسانية،
واكتُشف الإنسان اكتشافاً جديداً. وباختصار نشأت ونمت حضارة جديدة تختلف عن
الحضارات القديمة كلها، طابعاً، وأسلوباً، ونظراً للأمور.
ومن
الحق أن هذه الحضارة الحديثة كان موطن نشوئها غرب أوروبا، ولكنها الآن
تمتد على مدى العالم كله من أقاصي سيبيريا إلى مضيق ألاسكا. فهي ليست حضارة
غرب أوروبا، ولكنها حضارة العالم الحديث، التي تحاول من خلال اضطرابها بين
الآراء والأفكار أن تهتدي إلى فلسفة جديدة نستطيع أن نسميها «الإنسانية
الجديدة» تمييزاً لها عن النزعة الإنسانية في القرن الثامن عشر. وكما أن
الحضارة الحديثة ملك للإنسان، في أي من مواطنه، يستطيع أن ينهل من نبع هذه
الحضارة، فكذلك شأن الأدب والفن (…).
ولقد استرحت في
أمر الشعر العربي إلى نوع من اليقين حين قرأته، فأحببت ما أحببت وكرهت ما
كرهت، وتخيرت تراثي الخاص منه، واختلط تراثي الخاص منه بتراثي الخاص من كل
شعر قرأته بدءاً من كتاب الموتى والإلياذة، ونهاية بآخر ما قرأت. ولم يكن
دليلي إلى تخير تراثي الخاص هو قيمة هذا الشعر في لغته، أو تعبيره عن عصره،
ولكن قيمته في أي لغة، وتعبيره عن الإنسان.
ليس
التراث تركة جامدة، ولكنه حياة متجددة. والماضي لا يحيا إلا في الحاضر،
وكل قصيدة لا تستطيع أن تمدّ عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثاً.
ولكل شاعر أن يتخير تراثه كما يشاء.
٭ فقرات من سلسلة مقالات بعنوان «حياتي في الشعر»، جُمعت ونُشرت ضمن أعمال عبد الصبور الكاملة، دار العودة، بيروت 1977.
رائد شعرية التفاصيل:
في
أواخر خمسينيات القرن الماضي، لم يكن مألوفاً أن تشهد البلاغة العربية
نصّاً شعرياً يهبط باللغة إلى مستويات «عامية» و»يومية»، مثل هذه: «يا
صاحبي، إني حزين/ طلعَ الصباحُ، فما ابتسمتُ، ولم يُنر وجهي الصباح/ وخرجتُ
من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح/ وغمستُ في ماء القناعة خبزَ أيامي
الكـَفاف/ ورجعتُ بعد الظهر في جيبي قروشْ/ فشربت شاياً في الطريق/ ورتقت
نعلي».
ولسوف
تمرّ عقود قبل أن يستقرّ في الذائقة العربية أنّ صاحب هذا النصّ، الشاعر
المصري الراحل (1931 ـ 1981) كان يستكشف سمة جمالية سوف تصبح امتيازاً
لكثير من تجارب الشعر العربي اللاحقة، الشابة بصفة خاصة، في شكل قصيدة
النثر تحديداً؛ أي: شعرية التفاصيل، ملتقَطة ضمن لغة الهوامش والحياة
اليومية.
والحال
أنّ عبد الصبّور لم يكن شاعراً رائداً في الشكل الذي سيحمل تسمية «الشعر
الحرّ»، أو «شعر التفعيلة»، على نطاق مصر وحدها؛ بل كان، أيضاً، طاقة تجريب
خلاقة وحيوية ترفد المشهد الشعري العربي باسره، إلى جانب تجارب بدر شاكر
السياب، نازك الملائكة، نزار قباني، خليل حاوي، وسواهم. ولقد بدأ دوره يتضح
على امتداد مجموعاته الشعرية، ابتداءً من «الناس في بلادي»، 1957؛ «أقول
لكم»، 1961؛ «تأملات في زمن جريح»، 1970؛ «أحلام الفارس القديم»، 1964؛
«شجر الليل»، 1973؛ و»الإبحار في الذاكرة»، 1977.
كذلك
تمثّل إسهامه التجديدي في ميدان آخر خاصّ، هو المسرحية الشعرية، وفي ذلك
قال: «لو كنت رأيت القضية كما يراها بعض النقاد الذين يزعمون أن الشعر لا
مبرر له على المسرح، وأن المسرح الشعري بقية متحجرة من عهد قديم، لما فكرت
في كتابة المسرح الشعري. ولكني لم أكن أرى الموضوع من هذه الزاوية، بل لعلي
أيضاً لم أكن أتوسط فيه أو أهادن، فقد كنت أرى أن الشعر هو صاحب الحق
الوحيد في المسرح. وكنت أرى المسرح النثري، وبخاصة حين تهبط أفكاره ولغته،
انحرافاً في المسرح». وقد كتب عبد الصبور خمس مسرحيات شعرية: «مأساة
الحلاج»، 1964؛ «مسافر ليل»، 1968؛ «الأميرة تنتظر»، 1969؛ و»ليلى
والمجنون»، 1971؛ و»بعد أن يموت الملك»، 1975.
وفي
13 آب (أغسطس)، ولكن قبل 33 سنة، أودت نوبة قلبية حادة بحياة شاعر كان يعد
بالكثير؛ ليس في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وعلى صعيد التجريب
الإبداعي في المسرح والقصيدة، فحسب؛ بل في تلك المناطق الحيوية التي تخصّ
تطوير اليوميّ والمحسوس والهامشي في اللغة الشعرية، ونقل البلاغة العربية
إلى ميادين ثرّة ومتجددة، حتى حين تتناول… كوب الشاي ورتق النعل!
صلاح عبد الصبور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق