القدس في العقيدة والتاريخ
د. محمد عمارة
في التاريخ العربي لمدينة القدس, هناك حقائق تاريخية صلبة وعنيدة, تحتاج إلي أن نعيها نحن.. وإلي أن يعيها الآخرون.
فعروبة القدس تضرب في أعماق التاريخ ستين قرنا.. فلقد بناها العرب اليبوسيون في الألف الرابع قبل الميلاد.. أي أن عمر عروبتها قبل الميلاد هو أربعة آلاف عام ـ40 قرنا ـ فإذا أضيف إليها عمر عروبتها بعد الميلاد ـ وهو ألفا عام ـ كان عمر عروبتها ـ اليوم ـ قد تجاوز ستين قرنا!.
ـ وإذا كانت أرض كنعان ـ وهو الاسم القديم لفلسطين ـ قد رحل إليها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ فإن هذا الحدث قد وقع في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.. أي أن عروبة القدس سابقة في التاريخ علي عصر أبي الأنبياء إبراهيم بواحد وعشرين قرنا.
ـ وإذا كان المتدينون بالديانات السماوية الثلاث يؤمنون بأن الله قد بارك في القدس وفيما حولها.. فإن هذه المباركة الإلهية سابقة علي رحيل سيدنا إبراهيم إلي هذه الأرض, [ونجيناه ولوطا إلي الأرض التي باركنا فيها للعالمين] ـ الأنبياء:71 ـ فهي أرض مباركة قبل لجوء أبي الأنبياء إليها.. وهذه المباركة الإلهية لهذه الأرض, قد جعلها الله للعالمين.. وليس لفريق دون فريق!
ـ وإذا كان كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ هو الذي بدأت به اليهودية.. ونزلت عليه التوراة بشريعتها.. فإن موسى ـ كما يؤمن الجميع.. ويشهد التاريخ ـ قد كان في القرن الثالث عشر للميلاد.. أي بعد بناء اليبوسيين العرب لمدينة القدس بسبعة وعشرين قرنا.. كما أنه ـ عليه السلام.. قد ولد.. ونشأ.. وتعلم وتربي.. وبعث ونزلت عليه التوراة.. ثم مات ودفن بمصر.. حتى أن توراة موسى قد نزلت باللغة الهيروغليفية ـ لغته ولغة فرعون ـ الذي أرسل إليه موسى ـ ولغة القوم الذين بعث فيهم[وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم] إبراهيم:4 ـ ولم تكن اللغة العبرية ـ يومئذ.. في القرن الثالث عشر قبل الميلاد قد ظهرت بعد.. لأنها في الأصل لهجة كنعانية أصبحت لغة بعد غزو العبرانيين لأرض كنعان.. بقيادة يوشع بن نون ـ أي بعد عصر ظهور اليهودية ونزول التوراة الهيروغليفية ووفاة موسى ـ عليه السلام ـ بأكثر من مائة عام.
ـ وإذا كان العبرانيون القدماء ـ الذين خرجوا من مصر ـ قد غزوا أرض كنعان ـ فلسطين ـ بقيادة يوشع بن نون.. واستعمروا أجزاء من هذه الأرض العربية, فإن وجودهم بمدينة القدس, وسلطانهم علي بهذه المدينة العربية لايتعدي415 عاما ـ في القرن العاشر قبل الميلاد ـ علي عهد داود وسليمان ـ عليهما السلام.. أي أن هذا الوجود العبراني الطارئ والمؤقت في القدس إنما حدث بعد ثلاثة آلاف عام ـ ثلاثين قرنا ـ من عروبة القدس كما أن هذه اللحظة الطارئة التي كان فيها للعبرانيين دولة في القدس, هي نصف عمر الوجود والدولة العربية في الأندلس ـ الذي دام ثمانية قرون ـ كما أنها لا تقاس بألوان الوجود الذي طرأ ـ بالغزو ـ علي كثير من البلاد.. فالرومان أقاموا بمصر دولة دام عمرها عشرة قرون.. وكذلك صنعوا بكثير من بقاع الشرق, دون أن يؤسس لهم ذلك أي حق في أي من تلك البلاد!
ـ ولقد كان طبيعيا ـ عبر هذا التاريخ الطويل والعريق للقدس العربية ـ أن تتوالى علي أهلها عقائد وديانات.. وأن تقوم علي أرضها معابد ـ للوثنية حينا.. وللتوحيد حينا آخر ـ ولقد حدث ذلك في أغلب بلاد الدنيا.. فمصر ـ مثلا ـ عاشت التوحيد الذي بشر به نبي الله إدريس ـ عليه السلام ـ منذ عصر آدم عليه السلام ـ ثم شهدت فترات من الانحراف عن التوحيد إلي الوثنية.. ثم جاءها قمبيز[529 ـ522ق.م] الفارسي غازيا, وأقام فيها معابد لديانة الفرس..
ثم جاءها الاسكندر الأكبر(356 ـ323 ق.م] فقامت فيها معابد للوثنية الإغريقية والرومانية.. ومن مصر خرج الفراعنة إلي ما حولها من البلاد, فأقاموا فيها دولتهم, وبنوا بها معابدهم.. ومثل ذلك حدث ـ وطرأ ـ علي كثير من بلاد الدنيا التي غيرت دياناتها.. وبدلت آلهتها ومعابدها.. ولم يقل عاقل بتغيير خرائط الواقع ـ ذي الجذور التاريخية التي تضرب في أعماق صفحات التاريخ المكتوب ـ مثل عروبة القدس ـ ليحل محل هذا الواقع المعاصر ـ والتاريخي في الوقت نفسه ـ طارئ يعيد لحظة طارئة ـ ومؤقتة من لحظات التاريخ!.. وإلا لجاز أن تقوم للفرس.. أو للرومان حقوق بمصر.. ولجاز أن تقوم لمصر حقوق في البلاد التي عاش فيها الفراعنة, وأقاموا بها المعابد والدول.. ولجاز للرومان ـ الإيطاليين ـ أن يعودوا إلي الجزائر ـ التي أقام فيها أجدادهم لأكثر من ثلاثة قرون ـ.. وإذن لحدثت فوضي رهيبة في خرائط الواقع الذي نعيش فيه.
ـ وعبر هذا التاريخ العربي العريق لمدينة القدس.. تغيرت أسماؤهما عدة مرات.. فالعرب اليبوسيون ـ الذين بنوها قبل ستين قرنا ـ قد سموها يبوس.. ثم تغير اسمها إلي يورد سالم ـ أو يورو سالم ـ أي مدينة السلام ـ.. ثم أطلق عليها الرومان اسم إيليا الكبرى.. فلما جاء الفتح الإسلامي ـ الذي حررها من الاستعمار الروماني سنة15 هـ636 م ـ أراد العرب المسلمون أن يكون اسم هذه المدينة إعلانا عن قداستها, وعن مباركة الله لها منذ تاريخها القديم, فأطلقوا عليها اسم: القدس والقدس الشريف والحرم الشريف!
ـ ولأن وحدة الدين الإلهي ـ من آدم إلي محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هي عقيدة من عقائد الإسلام ـ الدين واحد.. وفي إطار عقائده الواحدة والثابتة, تتعدد الشرائع بتعدد واقع المراحل التاريخية التي ظهر فيها الرسل والأنبياء..
ولأن ختم رسالات السماء إلي البشر, برسالة محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو أيضا عقيدة من عقائد الإيمان الديني الإسلامي.. كان الربط.. والرباط الذي جاء في القرآن الكريم بين الحرم المكي الشريف وبين الحرم القدسي الشريف, عقيدة دينية إسلامية تجسد وترمز إلي عقيدة وحدة الدين الإلهي.. فالحرم المكي ـ الذي هو أول بيت ــ في الأرض ــ عبد الله فيه [إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم] ــ آل عمران: 96-97. وهو الحرم والبيت الذي أقام قواعده, وأعاد بناءه, وطهره أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل ــ عليهما السلام ــ [وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم] ـــ البقرة:127 ــ ولأن أبا الأنبياء ــ إبراهيم ــ عليه السلام ــ الذي أقام قواعد البيت الحرام ــ في رحلته الحجازية ــ قد كانت له رحلة أخري ــ ضمن رحلاته ــ إلي أرض كنعان ــ حيث القدس العربية ــ التي غدت قبلة للنبوات السابقة علي نبوة الإسلام الخاتمة..
بل والتي صلي إليها المسلمون ــ مع الكعبة ــ ثلاثة عشر عاما ــ في العهد المكي للدعوة الإسلامية ــ وثمانية عشر شهرا بعد الهجرة من مكة إلي المدينة ــ[ حتي17 شوال سنة2 هـ] ــ.. لأن أبا الأنبياء إبراهيم قد أقام هذه العلاقة بين أول بيت وضع للناس في الأرض ــ الحرم المكي الشريف ــ وبين القدس ــ قبلة النبوات التي تلت نبوة إبراهيم.. ولأن نبوة نبي الإسلام ــ محمد ــ صلي الله عليه وسلم ــ هي التي جددت ملة إبراهيم [قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا] ــ آل عمران:95 [ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا] ــ النساء:125 ــ [قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا] ــ الأنعام:161 وهي النبوة التي أحيت وجددت مناسك ملة إبراهيم ــ في الحج ــ تلك المناسك التي أقامها في رحلته الحجازية..
( عن جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 17-10-2009 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق