الأحد، 24 يوليو 2016

اكتب كي لا أراك

اكتب كي لا أراك

خيري منصور

 
Jul 23, 2016
 

حتى وقت قريب كانت هناك مقولة ذات صلة بالإنسان بوصفه حيوانا ناطقا، هي تكلّم حتى أراك، فاللغــــة هي التي تحسم الأمر وتظهر الإنسان على حقيقته، بعكس الصمت الذي يحوله إلى كيان مُغلق أو تمثال من لحم وعظم.

لكن ما طرأ من متغيرات على حياتنا شمل هذه المقولة أيضا، فأصبح هناك من يكتبون كي يخفوا أنفسهم بحيث تعاد صياغة العبارة لتصبح أكتب كي لا أراك، وكأن الكتابة طاقية إخفاء أو قناع ما دام من يكتــب لا يُرى ولا تخرج الكلمات من فمه كالزفير، فقد يتباكى على الورق وهو في الحقيقة يضحك ساخرا حتى مما يكتب، وربما لهذا السبب أصبح من يكتبون يختفون وراء الورق، خصوصا حين تكون الكتابة مجرد حرفة تستخدم البلاغة كالتوابل والبهارات لإخفاء رائحة الأفكار الفاسدة، كما يحدث للأطعمة على أرصفة البلدان الفقيرة.

فهل انتهى بنا الأمر إلى أن نقول لشخص ما أكتب كي لا نراك، أو نردد ما قاله أجدادنا وهو تسمع بالمُعيديّ خير من أن تراه؟

لقد شبّه بعض الفلاسفة مهنة الكتابة بالملح وقالوا إذا فسد الملح فلا يُرتجى أي شفاء من فساد العقل والروح. كم تغيرت الدنيا وكم تبدل الإنسان منذ لحظة «التقريد» التي كتب عنها ديزموند موريس وهو يكشف ما تلحقه الحاجة بالإنسان، وهو أكثر بأضعاف مما نسميه في ثقافتنا صاحب الحاجة أرعن.
إن الحاجة هي التي اخترعت الكذب والخوف وجعلت الآدمي حرباء تغير لون جلدها طلبا للنجاة، وإذا كان للعلم بُعد أخلاقي يُحصّنه ضد تطوير أدوات التعذيب والتسميم الحاذق والعضوي الذي لا يكتشف، بحيث تكتمل الجريمة وتطوى في ملف ينسب إلى مجهول، فإن للثقافة أيضا مثل هذا البعد الأخلاقي وهو الذي يحصنها ضد فقدان المناعة وأنيميا الضمير.

إن من يشبهون أنفسهم في الكتابة أقل عددا مما نتوقع، لكن مثل هذا الفرز يتطلب نقدا حصيفا وذا بصيرة، لأن الحفلة التنكرية التي نعيشها ثقافيا وسياسيا واجتماعيا خلطت حابل الصهيل بنابل النّباح والنعيق، ويبدو أن متوالية الاستنساخ لا نهاية لها، ما دامت الأصول مهددة الأشباه والأشباح معا، والتقليد اندفع إلى أقصاه فأصبح بالفعل تقريدا، ولم يسبق أن كانت الكتابة مهارة في التخفي، بدلا من التجلي، حتى في الزمن الذي كانت فيه تكلفة كتاب قطيعا من العجول يوم لم يكن الورق ميسورا كما هو الآن.

وهناك أسباب عديدة لهذا التخفي وراء الكتابة، منها الاستبداد الذي استطالت أنيابه وحول ضحاياه إلى كائنات ماسوشية تستمرئ الشقاء، وحين لا تجده تبحث عنه خصوصا في موروث كموروثنا أدى فيه التقويل والاستعداء وثقافة الوشاية إلى أن يشوى كاتب كالخراف وتبتر أصابع خطاط كما حدث للعازف فيكتور جارا، وأحيانا إلى الإعدام البطيء على طريقة السهروردي الذي قال بأن قدمه أراق دمه .

والسبب الآخر اجتماعي وتربوي خصوصا حين يكون للأعراف والتقاليد سطوة طاغية أعمى، فالخوف الذي يتحول إلى رعب ومن ثم إلى هلع وأخيرا إلى فوبيا يحرم الكائن من التعبير المباشر عن ذاته، ويبذل جهدا مضاعفا كي يخفي ما يريد، لهذا لا أبالغ إذا قلت بأن المثقف العربي في بعض الحالات يدفع تسعين بالمئة من طاقته لتبرير عشرة بالمئة فقط، هي المساحة المسموح له فيها بالتعبير، وربما لهذا السبب قال الراحل يوسف إدريس إن الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا. وقد تكون التقية في مهنة الكتابة أوفر وأشد نفوذا من التقية في الأيديولوجيا لأن الكاتب ذا القناع الذي لا يشبه نفسه على الإطلاق يسعى لأن يكون هناك وليس هنا، ولديه من صيغ الاحتراز وما يدرأ الالتباس والريبة أضعاف ما لديه من صيغ التعبير الحُرّ، ولأن لغتنا امبراطورية مترامية الأطراف قدر تعلق الأمر بالمجاز والمترادفات وجواز الوجهين فإن ذلك يتيح لمن يكتب بها أن يقول كل شيء لكي لا يقول شيئا محددا، لأن هاجسه هو البحث عن منزلة بين المنزلتين أو عن هامش كاللمبو في كوميديا دانتي يقيه من النار ويتيح له المراوحة على تخوم الفردوس.

هكذا أصبحت مقولة تكلم حتى أراك، أكتب كي لا أراك، فالكتابة بخلاف الكلام لا تقترن بزفير أو إيماءات جسد، والدموع فيها ليست مالحة لأنها ماء لا لون ولا طعم ولا رائحة له، خصوصا عندما تكون مجرد حرفة ومهارة معروضة للإعارة أو الإيجار، ولدينا من موروث المديح أو التكسب بالكتابة وكذلك من موروث الهجاء المؤدلج والرثاء الكاذب ما يكفي لأن يتحول الكاتب أحيانا إلى ندابة تتنقل بين المآتم وتذرف الدمع كالتماسيح مقابل أجر، فالبكاء أيضا حرفة، تماما كما هي الكوميديا في الفن حرفة، فهل هناك من يدلنا كما قال صلاح عبد الصبور على طريق الدمعة البريئة والضحكة البريئة لنعطيه ما أعطتنا الدنيا من التجريب والمهارة لقاء يوم واحد من البكارة؟

٭ كاتب أردني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق