الثلاثاء، 7 يوليو 2015

رسالة اعتذار إلى عمر المختار!! :: بقلم الأستاذ / محمد البلعزى


  رسالة اعتذار إلى عمر المختار!!



البلعزى
 
بقلم / محمد البلعزي

سيدنا شيخ المجاهدين::

نستميحكم عذراً بالوقوف إجلالاً من رجل مثلك ومن رفاق دربك وعهدك الذين هبوا في لحظة سوداء من عمر الوطن لنجدته من بطش المستعمر. كنتم في مستوى المسئولية الوطنية وكباركم طاعنون في السن وتفصل بينكم مسافات شاسعة وما رافقها من صعوبة التواصل والتنقل، كنتم أفرادا لا دراية ولا خبرة لكم في العمل الحربي أو التخطيط العسكري، لم تكونوا جنرالات أو ضباطاً أو جنوداً، بل شيوخاً وفلاحين وحرفيين وتجار وطلبة دين، أمام مستعمر تفوق عليكم عتادً وعدة وتدريباً وتطوراً في كل مناحي الحياة.

نهضتم لا تجمع بينكم سوى نخوة الدفاع والذود عن الوطن لأنه يعني لكم كل شيء، فهو الأرض والعرض والشرف والمجد والتاريخ، ولم يبخل أو يتوان أياً منكم في التضحية من أجله، في سبيل أن ينجلي المستعمر ويترك لكم وطنكم تعيشون فوقه بكرامة وتحافظون عليه إرثاً مصاناً وذخراً ومن بعدكم أبنائكم وأحفادكم، وبالفعل لم تكد تطأ قدم المستعمر ارض الوطن حتى أذقتموه شر العذاب والهوان، ولم يدم وجوده على صدر البلاد سوى ثلاثة عقود، لم يستطعم فيها الراحة لأن عينكم لم تنم وهي تتعقبه، فجَلا بعد أن كان يظن أنه سيخلد فوق هذه الأرض، وبالتالي كنتم ولا زلتم رمزاً لكفاح الأمة وتاجاً على رأسها.

أديتم المهمة ورحلتم وأنتم مطمئنو البال مرتاحو الضمير، واثقون تماماً من أن شيب وشباب هذه الأمة سيسيرون على النهج الذي بدأتموه، وعبرة لهم للحفاظ على الأمانة التي تركتموها في عهدتهم، حراساً لوطن غالٍ سالت على ترابه دماء المئات، بل الآلاف، منكم، أقول وطن وليس دولة، لأن الدولة لم تكن قائمة بعد.

وكم كانت بهجة الليبيين بعد أن رأوا أن كفاح آبائهم وأبنائهم لم يذهب سدى، وتوج ذلك الكفاح باستقلال، وما أعظمه من استقلال، وأصبحت ليبيا دولة ذات سيادة، يرفرف علمها خفاقاً في أعلى ساريات الهيئات الدولية وعواصم العالم، وهي تؤسس لهيبتها بين البلدان والاعتداد برأيها في الأسرة الدولية، وبدأ الليبيون يتنفسون الحرية التي كافحتم أنتم من أجلها وضحيتم بأرواحكم في سبيلها، وشرعت أرضهم تجود عليهم بالخيرات، وأخذ الشعب يسير نحو التقدم ولو ببطء وتؤدة.

ولمواجهة الخلافات والاختلافات المناطقية، التي لا تخلو منها أية بلاد، تم توحيد أطراف البلاد والقضاء على نظام الولايات، مما زاد من تماسك الليبيين وتشبثهم بالولاء للوطن وليس للقبيلة أو الجهة التي ينتسبون إليها، وأصبح المواطن حيثما وجد وأينما ذهب، أياً كان انتمائه، ليبياً قبل أن يكون جهوياً أو قبلياً.    

وفي لحظة غفا فيها التاريخ، تعرضت تضحياتكم ودمائكم التي أسيلت فوق تراب الوطن على أيدي المستعمر للخيانة، فقد برز على سطح الدولة أشخاص من أهل البلاد، ملأ الطمع وخدمة المستعمر قلوبهم وأذهانهم وحسدوا الليبيين على ما هم فيه، فقلبوا الموازين واستولوا على مصير البلاد والعباد، فعاثوا في الأرض فساداً وقطعوا الأعناق والأرزاق وخربوا الديار وبثوا الرعب في قلوب الآمنين، ورزح الشعب عقوداً أطول من عقود المستعمر تحت سياط الحاكم، لقي فيها من العذاب والمهانة والملاحقة والاضطهاد والسجن والنفي ما لم يلقاه على أيدي أعداء الوطن والأمة والدين. واستكان الشعب لعقود طويلة وهو ينتظر يوم الخلاص، ويدعو ربه صبحاً مساءً بسقوط السلطان المتأله وزبانيته وتنابلته. وبعد طول انتظار صحا الزمن لينتفض الشعب في ليلة لم يكن يحسب لها النظام لتتحول انتفاضته إلى حرب امتدت ثمانية أشهر سقط على أثرها النظام والحاكم ليسقط معه القناع الذي كان يرتديه للادعاء بأنه لا يملك ولا يحكم، بل أنه مواطن فقير كأي مواطن معدم آخر.

وعادت البهجة والفرحة الغامرة لتملأ قلوب الشعب الليبي بعد طول غياب، وظهر أمل استئناف مسيرة التنمية والتطور التي توقفت قبل أكثر من أربعين سنة، وبدأت البلاد تنتعش اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً بفضل نسيم الحرية الذي بدأ يستنشقه الشعب، وهب المواطن ليشارك في الحياة السياسية، وينطق ويعبر عن أرائه بحرية تامة. كان الأمل كبيراً في تأسيس دولة قانون ونشر الديمقراطية وترسيخ حقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة. لكن أعداء الوطن وحرية الإنسان كانوا يتربصون بالبلاد، وهذه المرة من بين أبناءها. شعبنا الليبي الذي ضحيتم بدمائكم على حريته يعاني اليوم من استعمار من نوع جديد خرج من بين صفوفه ليفرض رأيه وسلطته وجبروته بالنار والرصاص، وتعرض البشر إلى القتل والملاحقة ومقدرات البلاد للدمار والتخريب، فجلا مئات الآلاف إلى البلدان المجاورة، ومنهم من عاد إلى منفاه خارج البلاد لينفذ بجلده وأصبحت الحياة لا تطاق بعد أن قطعت عنها أبسط سبل الحياة، فقد  طال التدمير المتعمد الموانئ النفطية والمطارات والمستشفيات ومحطات توليد الكهرباء والمدارس والوزارات…إلخ، وإثارة النعرة الإقليمية والجهوية والقبلية، وتعطلت الحياة وتوقفت البلاد.

وهكذا، سيدي شيخ المجاهدين، ظهر من بيننا من أحفادكم من خان علناً كفاحكم المرير والطويل، فأصبحنا نرى الليبي يستنجد بالمستعمر الأجنبي، الذي حاربتموه وطردتموه من البلاد، ليتدخل لصالحه ويقف إلى جانبه ضد أخيه الليبي ويمكنه من السيطرة على السلطة دون أن تهمه مصالح وطنه أو سلامة شعبه ودون الحرص على خيرات ومقدرات بلاده، وما أكثر الطامعين، فخلال ثلاث سنوات فقط من سقوط النظام، تعرضت أموال البلاد إلى نهب وسلب وتهريبها إلى الخارج بشكل لم يحدث قط في أية دولة أخرى من العالم. 

سيدنا شيخ المجاهدين

واليوم يقطر القلب دماً ونحن نشاهد ونتابع من منفانا في الخارج المآسي التي يتعرض لها وطننا على أيدي بعض من أبنائه المارقين الطامعين وعديمي الضمير، بميليشياتهم وكتائبهم المسلحة، ومن منفانا البعيد عن الوطن الذي نقيم به لأكثر من أربعين سنة لا لسبب سوى سياسة نظام الطاغية السابق أجبرتنا على الرحيل، لم ننس خلالها الوطن لحظة واحدة، وكنا على شوق جارف في العودة إلى أرض الوطن والعيش في سلام بعد أن طال الرحيل، لكن انكشاريي بلادنا حالوا دون ذلك، وهنا لا يسعنا إلا أن نستذكر قول الشاعر الذي تعرض هو الآخر في وقتكم إلى النفي من البلاد على أيدي المستعمر:

تركناك يا وطننا بالسلامة… ورانا نداما…  ويا بخت من فيك كمل أيامه

وللميليشيات المتحاربة التي لا يعنيها شعب ولا وطن، الفائز منها خاسر، أقول لها إن عجلة الزمن تدور وسيأتي عليها يوم يحاسبها فيه الشعب على ما اقترفته من جرائم في حقه وما نهبته من أموال وما خربته من مقدرات، وهنا يحضرني قول الفيلسوف الأسباني ميغيل دي اونامونو عقب الحرب الأهلية الأسبانية في نهاية ثلاثينات القرن العشرين، موجهاً كلامه للطرف الفائز:

“تنتصرون لأنكم تملكون القوة الساحقة، لكنكم لن تقنعونا، ولكي تقنعوننا يجب أن تكون لديكم القدرة على الإقناع، ولكي تقدروا على إقناعنا ينقصهم شيء ضروري: امتلاك الصواب والحق في هذه الحرب”.Venceréis, porque tenéis sobrada fuerza bruta. Pero no convenceréis. Para convencer hay que persuadir, y para persuadir necesitaréis algo que os falta: razón y derecho en la lucha…”     

لذا نتقدم منكم سيدنا شيخ المجاهدين ومن رفاقك في الكفاح عن الوطن، بطلب العذر والصفح لأن بعضنا لم يحافظ على الأمانة التي وضعتموها فينا وما اقترفه في حق هذا الوطن، لكننا نعاهدكم أنه بمثل الخزي الذي شعر به المستعمر الأجنبي وهو يغادر ارض الوطن إلى غير رجعة، فإن من سار على شاكلته اليوم من أبناء هذه الأرض سيذوق نفس الشعور، والتاريخ لا يرحم.

وعاشت ليبيا رغم المحن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق