من
أعظم وأقوي الروابط العقدية والإيمانية الرباط القرآني بين الحرم المكي
الشريف وبين الحرم القدسي الشريف فهو عقيدة من عقائد الإسلام ــ في وحدة
الدين ــ [سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى
الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير] ــ الإسراء:1..
وإذا
كان القرآن الكريم هو معجزة النبوة الخاتمة, التي وقع وقام بها
التحدي, وثبت به صدق محمد ــ صلي الله عليه وسلم ــ وإذا كان الإيمان
الإسلامي يقر بوقوع وحدوث معجزات مادية لرسول الإسلام.. فلحكمة بالغة أن
القرآن الكريم لم يذكر من المعجزات المادية للنبي ــ صلي الله عليه وسلم ــ
سوي معجزة الإسراء والمعراج ــ التي مثلت الرباط العقدي بين الحرم المكي
الشريف وبين الحرم القدسي الشريف ــ كتجسيد لعقيدة وحدة دين الله الواحد,
والربط بين قبلة النبوة الخاتمة وقبلة النبوات التي سبقت نبوة الإسلام.
ـ
ولأن هذه هي المكانة الدينية والإيمانية للقدس الشريف في العقيدة
الإسلامية, كان التميز والامتياز في موقف المسلمين من هذه المدينة
المقدسة منذ اللحظة الأولي لتاريخها الإسلامي.. فهي مدينة عربية
قديمة.. استعمرها الرومان عشرة قرون ــ منذ الاسكندر الأكبر[356
ــ323 ق.م] ــ في القرن الرابع قبل الميلاد ــ وحتى هرقل[610
ــ641 م] ــ في القرن السابع للميلاد.. ولقد احتكرها الرومان لأنفسهم
وحدهم ــ سواء في عصر وثنيتهم.. أو في عصر نصرانيتهم, ومذهبهم
الملكاني ــ ودمروا الوجود اليهودي فيها.. فلما حررها المسلمون ــ ضمن
تحريرهم لأوطان الشرق ولعقائد أهله ــ أعادوا لها قدسيتها الدينية..
وأشاعوا هذه القدسية بين كل أصحاب المقدسات, وذلك ــ أيضا ــ انطلاقا من
عقيدة دينية إسلامية, يتفرد بها الإسلام والمسلمون, وهي الاعتراف بكل
النبوات والرسالات, ومن ثم تقديس كل مقدسات أتباع كل النبوات والرسالات
[آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله] ــ البقرة:285.
ولقد
تجسدت هذه العقيدة الإسلامية ــ عقيدة قداسة القدس.. وإشاعة قداستها بين
جميع أتباع الديانات السماوية, وأصحاب المقدسات الدينية ــ تجسدت هذه
العقيدة الإسلامية وتجلت ــ في تعامل المسلمين مع هذه المدينة منذ اللحظات
الأولي لتاريخها الإسلامي.. وطوال هذا التاريخ.
فهم
الذين سموها القدس.. والقدس الشريف.. والحرم القدسي الشريف.. ليكون
الاسم عنوانا علي عقيدة المسلمين في قدسيتها وتقديسها.
ـ
وهم ــ وحدهم ــ الذين عاملوها معاملة الإسلام للحرم ــ الذي يحرم فيه
القتال وسفك الدماء ــ فكانت مثل مكة ــ التي حرص المسلمون علي فتحها
سنة8 هـ ـ سنة629 م سلما ــ رغم تاريخ أهلها الذين عذبوا المسلمين..
وفتنوهم في دينهم.. وأخرجوهم من ديارهم.. ومردوا علي غزو المدينة
ومحاولات استئصال المسلمين فيها.. والمدينة ــ الحرم الإسلامي الثاني ــ
فتحها المسلمون بالقرآن ــ وكذلك عامل الفاتحون المسلمون القدس ــ ثالث
الحرمين ـــ معاملة الحرم, فحرصوا علي مصالحة أهلها, وتجنب القتال
فيها.. بل لقد تفرد موقفهم منها أيضا عندما استجابوا لمطلب أهلها ــ
بقيادة البطريرك صفرينيوس[17 هـ638 م] ــ الذي طلب أن يتسلم مفاتيح
المدينة خليفة المسلمين ــ الراشد الثاني ــ عمر بن الخطاب[40 ق.
هـ23 هـ584 ــ644 م] ــ رغم أن قائد جيوش الفتح الإسلامي بالشام
يومئذ كان أمين الأمة الإسلامية أبو عبيدة بن الجراح[40 ق هـ ـ18
هـ584 ـ639 م].. فسار عمر من المدينة إلي القدس, ليتسلم
مفاتيحها.. وليحقق المسلمون لهذا الحرم القدسي الشريف هذه الفرادة التي
لم تحظ بها مدينة من المدن التي فتحها المسلمون!..
ـ
والمسلمون لم يشيعوا قداسة القدس بين كل أصحاب المقدسات ــ فقط ــ بل إنهم
ــ انطلاقا من تفردهم بالاعتراف بكل النبوات والإيمان بجميع الرسالات,
قد قدسوا مقدسات الآخرين.. فرسولهم ــ صلي الله عليه وسلم ــ قد علمهم
ليس فقط الاعتراف.. والإقرار بمقدسات الآخرين.. بل وأوجب عليهم حماية
مقدسات الآخرين!.. فهو الذي كتب للنصارى سنة15 هـ سنة631 م وثيقة
دستورية يقول فيها:
وأن
أحمي جانبهم, وأذب عنهم, وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم, ومواضع
الرهبان, ومواطن السياح, حيث كانوا.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين
كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي, وأهل الإسلام من ملتي..
لقد
قدس المسلمون مقدسات الآخرين.. ولذلك, فإن عمر بن الخطاب, عندما
احترم قداسة كنيسة القيامة, واعتذر للبطريرك صفرينيوس عن عدم الصلاة فيها
ـ عندما حان وقت الصلاة ـ كي لا يؤسس لشبهة حق إسلامي في الموضع الذي صلي
فيه ـ لم يكن يصدر عن مجرد السماحة المتألقة. التي تمنح وتمنع, وإنما
كان يصدر عن عقيدة إيمانية إسلامية إزاء مقدسات الآخرين!.
ـ
والمسلمون ـ انطلاقا من هذه المكانة المقدسة للقدس في العقيدة الدينية
الإسلامية ـ كانوا هم الحريصين علي إعادة الطهر والطهارة إلى كل الأماكن
التي سبق وعبد الله فيها ـ في القدس وفي فلسطين ـ فلقد تجول عمر بن الخطاب
في ربوع القدس, فوجد الرومان ـ الذين دمروا معابد الآخرين ـ قد جعلوا من
أماكن العبادة هذه مقالب للنفايات والقاذورات!.. فكان أمير المؤمنين عمر ـ
ومعه صحابة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يفرشون أرديتهم, ويحملون
عليها هذه النفايات, كي يعيدوا الطهر والطهارة إلى الأماكن التي سبق وعبد
الله فيها في هذه المدينة وتلك البلاد!..
ـ
والمسلمون هم الذين أعادوا اليهود إلى سكني القدس ـ بعد أن كانوا مطرودين
منها! ـ وعلي الرغم من أن نصارى هذه المدينة قد طلبوا من عمر بن الخطاب
ألا يسكن معهم فيها أحد من اليهود أو اللصوص!.. لكن العقيدة الدينية
الإسلامية في إشاعة قداسة القدس بين كل أصحاب هذه المقدسات كانت فوق
المطالب التي أملتها المنافسات.. والثارات بين أتباع الشرائع
والديانات..
ـ
ولأن المسلمين هم الذين يعترفون بكل ألوان الآخر الديني ـ ويتفردون بذلك ـ
فلقد رأت الطوائف النصرانية المقدسية المتنافسة علي الأماكن النصرانية
المقدسة.. رأت في المسلمين الحكم ـ المحايد ـ والعدل بين هذه الطوائف..
فنصت كثير من حجج أوقاف كنائس القدس, وحفظ مفاتيح هذه الكنائس, علي أن
يكون نظار هذه الأوقاف وحاملو هذه المفاتيح أسرا مسلمة, يتوارث أبناؤها
نظارة الأوقاف الكنسية وحمل مفاتيح الكنائس, وذلك تلافيا للمنافسات
والمشاحنات التي اتسمت بها علاقات هذه الطوائف ـ تاريخيا.. وحتى هذه
اللحظات, كما هو الحال مع دير السلطان!!..
ـ
ولأن هذه المكانة الدينية للقدس هي عقيدة دينية إسلامية.. وليست مجرد
سماحة يمنحها حاكم ويمنعها آخر.. فلقد استمرت هذه المكانة.. وهذه
المعاملة للقدس الشريف عبر تاريخ الإسلام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق