في
جلسة صوّتت، بعد انتظار سنوات، لقانون العفو العام في العراق، قرّر
النوّاب العراقيّون سحب الثقة وإقالة وزير الدفاع خالد العبيدي، وهو الوزير
نفسه الذي هاجم رئيس البرلمان سليم الجبوري وعدداً من النواب في بداية
الشهر الجاري متّهماً إيّاهم بالفساد أثناء جلسة استجوابه، هو نفسه، بتهم
فساد.
تسنّ قوانين العفو العام في العالم بعد مرحلة اضطراب كبرى (كالتي
جرت في العراق (وما تزال) منذ الاحتلال الأمريكي له عام 2003) كإجراء
استثنائي يهيئ كيانات المجتمع لفترة عدالة انتقالية ومصالحة وطنية.
تمرير
القانون أمس سيعني إطلاق سراح الآلاف ممن كانوا ضحايا وشايات مخبرين
سرّيين كما سيشمل عراقيين قاوموا الاحتلال الأمريكي لكنّه سيستثني المتهمين
بالإرهاب والأجانب وثلاث عشرة حالة أخرى بينها (ويا للعجب): جرائم الرشوة
والاختلاس والتجسس على أمن الدولة الداخلي والخارجي وتهريب الآثار والتزوير
الخ…
أمّا سبب التعجب فهو أن النخبة السياسية العراقية التي أقرّ
نوّابها أحكام هذا القانون يمكن أن تنطبق على الكثيرين منهم تهم الضلوع في
قضايا رشوة واختلاس وتجسس على أمن الدولة وتهريب آثار (ونعفّ عن ذكر
الجرائم الأخرى)، فوزير الدفاع الذي أقاله البرلمان من منصبه تم استجوابه
بتهم بينها دخول أحد أبنائه على خط العقود والشركات واستغلال منصبه للإثراء
غير المشروع، وهو ما ينسحب أيضاً على من استجوبوه، والذين اتهمهم بقضايا
فساد بينها طلب رفع سعر عقد سيارات عسكرية من 60 مليون دولار إلى 340 مليون
دولار، وإحالة عقد إطعام الجيش إلى شركات تعود لأشقاء وأقرباء أعضاء في…
الكتلة السياسية نفسها التي ينتمي إليها.
غير أن هذه الاتهامات التي تم
تبادلها تحت قبّة البرلمان وتحت سمع ونظر الشعب العراقيّ لا يمكن اعتبارها
غير تهريج خفيف (أو كما وصفها رئيس البرلمان نفسه: مسرحيّة) هدفها تسلية
الفئة الحقيقية الحاكمة التي قام الطرفان، وهما من الكتلة السنّية نفسها،
بالعراك أمامها على قضايا يمكن اعتبارها «تافهة» أمام ما يجري حقيقة من
تدمير شامل لحضارة العراق، ومن ممارسات جعلت العراق في أعلى قائمة البلدان
فساداً في العالم، ومن استتباع مخز للنخبة الحاكمة لأوامر السيدين الآمرين
في «المنطقة الخضراء»: إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
إن الرائحة
التي لا تطاق لاجتماع ثلاثيّة التبعيّة المهينة مع الاستبداد الوحشيّ
والفساد البنيوي فتحت الطريق لأزمة كبرى يعتبر تنظيم «الدولة الإسلامية»
أحد تجلّياتها وهي لن تنتهي، بالتأكيد، بهزيمته العسكرية المؤكدة، لأنها لا
تفعل غير إعادة إنتاج الأزمة بأشكال مختلفة.
كما أنّها الأزمة نفسها
التي تجعل مقبرة «وادي السلام» في النجف مركز «أكبر مقبرة في العالم»، بحسب
ما ذكرت وكالات الأنباء قبل أيّام، فالأفق الذي يفتحه ثلاثي التبعية
والاستبداد والفساد لسكّان العراق، الذين صنعوا أول حضارات العالم، هو أفق
صفريّ لا أمل فيه.
كان لطيفاً، على سوء المشهد العراقيّ هذا، أن نشهد
طلب رئيس «هيئة النزاهة» العراقية من رئيس الوزراء حيدر العبادي إعفاءه من
منصبه، فهو منصب فيه من إمكان ممارسة النزاهة مثل ما في منصب وزير الدفاع
من ممارسة الدفاع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق