القدس في العقيدة والتاريخ - (الجزء الثالث)
القدس في العقيدة والتاريخ - (الجزء الثالث)
بقلم: د. محمد عمارة
تم إقتراح النشر من قبل الأستاذ / عدلى البرقونى .
...
لقد ظل المسلمون يشيعون قداسة القدس بين جميع أصحاب المقدسات.. بينما
أعاد الصليبيون احتكارها لمذهبهم اللاتيني, وحولوا المسجد الأقصى إلى
اصطبل خيل!.. ومخزن سلاح!.. وكنيس لاتيني!.. وظل المسلمون يعاملون
القدس معاملة الحرم الذي لا يجوز القتال فيه ولا سفك الدماء علي أرضه..
فحررها صلاح الدين الأيوبي[532 ـ589 هـ1137 ـ1193 م] من الاغتصاب
الصليبي سنة583 هـ1187 م ـ بعد قرابة التسعين عاما من الاغتصاب..
وكما
دخل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الحرم المكي يوم الفتح سنة8
هـ629 م ـ ساجدا لله علي راحلته في منظر فريد غير مسبوق ـ كذلك سجد صلاح
الدين الأيوبي علي تراب باب القدس ساعة تحريرها ـ سلما وصلحا ـ من الاغتصاب
الصليبي.. وكما لم يجاز رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أهل مكة عنفا
بعنف ـ لأن مكة حرم ـ كذلك كظم صلاح الدين الأيوبي غيظه, فلم يصنع بالقدس
ما صنعه الصليبيون عندما احتلوها سنة493 هـ1099 م.. فقتلوا وحرقوا
وذبحوا سبعين ألفا من أهلها ـ مسلمين ويهودا! ـ ولم يرحموا حتى الذين
احتموا بمسجد عمر ـ مسجد قبة الصخرة ـ فذبحوهم بالمسجد, حتى تحولت دماء
الضحايا إلى أمواج سبحت فيها خيول فرسان الإقطاع الصليبيين إلى لجم
الخيل!! ـ كما حكي شهود العيان من نصارى المؤرخين!..
لم
يصنع صلاح الدين شيئا من ذلك الذي صنعه الصليبيون ـ ومن قبلهم الرومان ـ
انطلاقا من عقيدته الإسلامية في القدس.. وضميره الديني إزاء هذا الحرم
المقدس..
ـ
وهذا الذي صنعه الصليبيون.. ومن قبلهم الرومان.. صنعه المستعمرون
الإنجليز سنة1917 م عندما اقتحم الجنرال اللنبي[1861 ـ1936 م]
مدينة القدس, معتبرا غزوته هذه نهاية الحروب الصليبية!..
وهو
الذي صنعته الصهيونية سنة1967 م عندما اقتحمت القدس.. لتهودها..
وتحتكرها.. ولتعيد ـ علي أرض القدس ـ هذا الفصل الدامي والبائس من احتكار
هذه المدينة المقدسة.. ومن تدنيس وتدمير المقدسات غير اليهودية.. ومن
تدمير الوجود العربي في القدس ـ ذلك الوجود الذي يضرب في عمق التاريخ لأكثر
من ستين قرنا ـ أي السابق علي وجود اليهودية واليهود بأكثر من سبعة
وأربعين قرنا!..
وليثبتوا
ـ دون أن يقصدوا ـ تفرد الموقف الإسلامي من هذه المدينة المقدسة.. عندما
عاملها ـ عبر تاريخ الإسلام فيها ـ معاملة الحرم المقدس.. الذي لا يجوز
فيه القتال ولا سفك الدماء فيه.. والذي تجب إشاعة قدسيته بين جميع أصحاب
المقدسات.. أي أن إسلامية القدس, والسلطة العربية الإسلامية فيها هي
الضمان لبقائها حرما آمنا للجميع.. وميراثا مقدسا لكل أصحاب المقدسات..
هكذا كانت عروبة القدس, حقيقة صلبة وعنيدة ضاربة في عمق أعماق
التاريخ.. وهكذا كانت إسلامية القدس ـ بشهادة التاريخ.. وبحكم العقيدة
الدينية الإسلامية ـ الضمان لجعلها ميراثا مقدسا لكل أصحاب المقدسات..
وعن هذه الحقيقة عبر صلاح الدين الأيوبي ـ في رسالته إلى الملك الصليبي
ريتشارد قلب الأسد[1157 ـ1199 م] عندما قال له:
القدس
إرثنا كما هي إرثكم.. من القدس عرج نبينا إلى السماء.. وفي القدس
تجتمع الملائكة.. لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة.
أما بالنسبة إلى الأرض, فإن احتلالكم فيها كان شيئا عرضيا, وحدث لأن المسلمين الذين عاشوا في البلاد حينها كانوا ضعفاء..
ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد.
إنها
مدينة عربية إسلامية عريقة.. شهد تاريخها من الفصول والصفحات ما جعلها
رمز الصراع بين الحق والباطل.. وبوابة الانتصار في هذا الصراع التاريخي
الطويل..
وصدق
رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ حيث قال: لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين, لعدوهم قاهرين, لا يضيرهم من خالفهم, إلا ما أصابهم من لأواء
ـ[ شدة ومحنة] ـ حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك
قالوا: يا رسول الله, وأين هم؟
قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ـ رواه الإمام أحمد.
إن
حقائق الأرقام تقول لنا ـ وللعالم ـ إن التاريخ العثماني لفلسطين قد حافظ
علي عروبة سكانها وعلي عروبة أرضها.. فالوجود اليهودي في فلسطين
سنة1918 م لم يتعد55,000 نسمة ـ أي8% من السكان.. ولم تتعد ملكيتهم
في الأرض نصف مليون دونم ـ أي2% من أرض فلسطين..
ـ لقد دمرت إسرائيل سنة1948 م538 قرية فلسطينية, واستولت علي أراضيها.
لما
استولت علي أراضي الأوقاف الخيرية الفلسطينية.. وعلي أراضي الأملاك
الأميرية, وبعد عدوان سنة1967 م توحش الاستعمار الاستيطاني ليبتلع كل
فلسطين.
ففي
غزة, تم توسيع الشريط الحدودي علي الجانب الفلسطيني ـ المنطقة الأمنية
العازلة ـ بما مساحته24% من مساحة القطاع!.. كما تم تدمير275 دونم في
شهر ديسمبر2007 م.
وفي
الضفة الغربية, تم تقسيمها إلى أربعة أقسام:1 ـ القدس2 ـ غرب
الضفة3 ـ غور الأردن4 ـ جنوب الخليل, وذلك لتقطيع أوصالها
بالمستوطنات.
وأقيم
الجدار العنصري العازل, الحامي للاستيطان, والمبتلع للأراضي
الفلسطينية ـ والذي بني منه450 كيلومترا, ولم يبق منه سوي80 كيلومترا
ـ برغم قرار محكمة العدل الدولية بعدم مشروعيته وتمثيله جريمة حرب تغير
طبيعة الأرض المحتلة.
كما تم ـ علي أرض الضفة ـ تجريف80,712 دونم في أثناء الانتفاضة الثانية من2000/2/8 م وحتي2006/1/31 م.
وتم الاستيلاء علي85% من مياه الضفة, بحيث أصبح للفلسطيني60 لترا, وللمستوطن اليهودي280 لترا.
وفي سنة2007 وحدها تم اقتلاع وتجريف وحرق34,650 شجرة في الأراضي الفلسطينية!.
ـ
أما القدس ـ التي بناها العرب اليبوسيون قبل ستين قرنا ـ فلقد ابتلعها
الاستيطان, وأوشك تهويدها واحتكارها وتهديد مقدساتها علي التمام!
ـ
وفي2004/4/14 م أعطي الرئيس الأمريكي بوش لشارون رسالة الضمانات التي
تعهدت فيها أمريكا ببقاء الوقائع علي الأرض في المفاوضات النهائية
للتسوية.. أي بقاء الاستعمار الاستيطاني الذي ابتلع القدس وفلسطين!.
تلك هي حقائق التاريخ ـ القديم والحديث والمعاصر ـ للقدس الشريف.. ولفلسطين..
وإذا
كان الوعي بالتاريخ ـ وليس مجرد قراءته ـ هو سلاح من أمضي الأسلحة في
صناعة التاريخ, فإن الوعي بمكانة القدس في التاريخ العربي.. وبمكانتها
في العقيدة الإسلامية, هو السلاح المحرك للملكات والطاقات.. والسبيل
لإنعاش الذاكرة بالحق السليب.. حتى يأتي اليوم الذي تجتمع فيه للأمة
الإرادة والإدارة التي تعيد لها هذا الحق السليب.
نشرت بجريدة الأهرام المصرية (بتاريخ 3 – 10 – 17/10/2009م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق