إذا
كانت صورة الطفل السوري عمران قد أيقظت ضمير الغرب الرسمي ( لا اقول
العربي فهو متكلس مثل مواسير المجاري )، وبعد خمس سنوات من الموت المستهدف
للاطفال، بأشكال ما كانت تخطر على بالنا، فان صحوة الضمير لم تتمخض عن شيء
غير الاستنكار اللفظي ليغطي على استمرار الحرب الجوية بلا هوادة. فقصف
التحالف الدولي « الانساني» لايزال مستمرا وكذلك « الوطني»، بالبراميل
المتفجرة، باستثناء هدنة ثلاث ساعات تمنح، بين الفينة والفينة، لمن تبقى من
الاحياء.
الحرب الجوية هي السمة العسكرية والاستخباراتية الرئيسية في
مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وتبدت بأكثر اوجهها اتساعا في حقبة اعلان
أمريكا « الحرب على الإرهاب»، اثر ما لحقها من اهانة الخسارة في حربها ضد
فيتنام، التي حاول المحافظون الجدد ايجاد علاج لها من خلال هيمنتها
العسكرية والاقتصادية على العراق. وقد ازدادت الحاجة إلى الحرب الجوية
والاعتماد عليها، منذ غزو العراق عام 2003، كمحاولة من الدول الغازية
لتقليل خسائر قواتها واستهداف المقاومة، بغض النظر عن تعريض حياة المدنيين
للخطر. واكتسب الأمر زخما متصاعدا، بتكنولوجيا الطائرات بدون طيار، التي
تصور و تقصف بقذائف متزايدة الوزن، ويتعاظم وجود قواعدها وغرف توجيهها،
قليلة التكلفة، في كل مكان، آخرها الأمريكية في العراق، في قاعدة القيارة،
وقبلها في البغدادي والحبانية والتاجي، اضافة لمطار بغداد.
اتساع الحرب
الجوية، على تركزها، في الاعوام الاخيرة، في العراق وسوريا، يشمل بلدانا
عربية أخرى، وبتحالفات متنوعة. حيث يقودنا تتبع المسار الجيني للحرب
الجوية، في بداياته، إلى قصف العراق طوال فترة التسعينيات، وقصف الكيان
الصهيوني، وهو الأب الروحي لأمريكا المحافظين الجدد، لفلسطين المحتلة، خاصة
غزة المحاصرة، بالاضافة إلى لبنان. وبينما استمر قصف العراق بعد احتلاله،
أضيفت إلى قائمة الدول المباركة بالحرب الجوية سوريا وليبيا واليمن، مؤسسة
بذلك نوعية وهيكلية تحالفات، قد لاتكون جديدة في اهدافها الاستراتيجية، إلا
انها طرحت في الاسواق بمسميات جديدة مثل الأكل البائت الذي يعاد تقديمه
بعد اضافة خلطة بهارات اليه. هناك مثلا قوات التحالف الدولي، بقيادة أمريكا
( عملية العزم التام) واختصاصها قصف العراق وسوريا، وقوات التحالف ( عاصفة
الحزم) المكونة من عشر دول، بقيادة السعودية واختصاصها قصف اليمن،
والتحالف الروسي – الإيراني – السوري لقصف سوريا. كل واحد من هذه التحالفات
أو الدول المساهمة فيه يتهم التحالفات والدول الأخرى بالاخلال بسيادة
البلد الذي يتعرض للقصف ويطلق تصريحات الادانة والاستنكار بتنافس اسهال
لفظي. فروسيا تدين التدخل الأمريكي في سوريا، بمشاركة إيران التي تنطلق
طائرات قصف المدن السورية من قواعدها، وتستخدم ضحايا القصف الأمريكي من
المدنيين أداة دعائية لسياستها، في ذات الوقت الذي تدين فيه أمريكا التدخل
الروسي والإيراني مستغلة صور ضحايا المدنيين، جراء القصف، للترويج لـ «
انسانيتها» بالمقارنة مع اجرام الطرف الآخر.
تسخر كل التحالفات اجهزتها
الدعائية، لاقناع الناس بأن حربها الجوية ضد الإرهاب وأن أهدافها عسكرية
بحتة تتضمن مهاجمة القواعد، ومراكز القيادة والسيطرة والاتصالات، وتدمير
مخازن الاسلحة، بينما تتوخى الحرص على حياة المدنيين. تساندها بذلك،
الحكومات العربية لتشرعن قصف شعوبها، بآلية محلية، كالبراميل المتفجرة، كما
يفعل نظام حزب البعث في سوريا وحزب الدعوة الشيعي بالعراق.
هل الاهداف
عسكرية بحتة، حقا، والقتلى من « الإرهابيين» فقط، والكل يعلم ان لا حدود
فاصلة بين المدنيين والمتقاتلين، ايا كانوا ؟ ما الذي سببته 14300 عملية
قصف في سوريا والعراق، خلال الثلاث سنوات الأخيرة، بوتيرة متصاعدة، أي
بمعدل غارة جوية كل ساعة، على مدار اليوم والاسبوع والشهر والسنة؟
تشير
احصائيات التحالف بقيادة أمريكا إلى مقتل 25 ألف « إرهابي» مقابل 3
أمريكيين وجرح 16 آخرين. وحسب القيادة المركزية الأمريكية، تم استهداف أكثر
من 26 ألف هدف للعدو ( حتى 31 أيار/مايو هذا العام) مما أدى إلى تدمير
1620 منشأة نفطية، وأكثر من 6500 مبنى وذلك « لطبيعة الحرب المدينية». ما
لا يبينه التقرير هو ما الذي يعنيه بـ « المباني»؟ هل هي منازل مأهولة
بالسكان؟ أم ان هذه المباني، وهي الموجودة في المدن المكتظة، خالية من
السكان؟ وما الذي يعنيه استهداف ما يزيد على ثمانية آلاف « هدف آخر»؟ هل
حدث واستفسر مسؤول ما في اية دولة عربية عن ماهية « الهدف الآخر» الذي تم
قصفه ووضعته القيادة المركزية الأمريكية في جداولها ؟
هناك تحليل مهم
لمعطيات الحرب الجوية على موقع « أير وور»، يبين زيادة اعداد الضحايا
المدنيين جراء قصف التحالف الدولي، الذي ازداد بنسبة 92 بالمئة في العام
الثاني للقصف، مما يعني ان هناك مدنيا يقتل لكل تسع غارات جوية. وهو تقدير
منخفض، باعتراف الموقع، وذلك لعدم معرفة مصير الجرحى وعدم حساب ضحايا القصف
الروسي والنظامين السوري والعراقي. وأدى استعداد الولايات المتحدة
وحلفائها لاعتبار سقوط 10 من الضحايا المدنيين في أي قصف «أمرا مقبولا في
الحرب على الإرهاب»، بل واعلانها بانها كانت مستعدة لقبول ما يصل إلى 50
ضحية خلال ضربة واحدة على أحد البنوك في الموصل، إلى اتساع حجم الجرائم
التي كان يجب اعتبارها جرائم حرب، لو كانت لدينا حكومات وطنية تطالب بتطبيق
القانون الدولي. وما كان لتحالفات الحرب الجوية الدولية ان تستمر في قتلها
المباشر وغير المباشر للمدنيين، والتهديم العمراني، والأثري والمنشآت
الاقتصادية، لولا وجود حكومات متواطئة مسلوبة الارادة.
واذا كان واجب
الحكومات، عادة، تمثيل مواطنيها وحمايتهم وصيانة سيادة الدولة، فان حكام
الأنظمة العربية « هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم»، بكلمات أمل دنقل،
يمارسون العكس. انهم يحولون دونية مشاعرهم تجاه سادتهم إلى كراهية
يسوقونها ضد شعوبهم. يغلفون خنوعهم بسياسة قبول الامر الواقع، ويلوكون
محاربة الإرهاب لتبرير فسادهم. فلا عجب إلا يسمع صراخ اطفالنا أحد، فقهقهة
اللصوص أعلى بكثير.
٭ كاتبة من العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق