الرّاكب
الذي كان قربي على طائرة (الإمارات ـ البحرين) قال لي إن الفلسفة حين
تتزاوج مع فنون أخرى فإما أنّها تنتج شيئا خارقا أو تنتج دمارا.
وللحظة
ما انتقل بنا الحديث إلى عصر ولادة الفلسفة وما نتج عنها من أسئلة وشكوك
وبحوث وعلوم. وقد فكرت أن الشعر ربما كان بخير طيلة قرون من الزمن طالما لم
يدخل في قصة حب مجنونة مع الفلسفة الفاسقة بكل مجونها وجنونها وعنفوانها.
فقبل الفلسفة كان الشعر يختصر العالم في كلمات راقصة. أما بعدها ورغم أن الفلسفة تعني «محبة الحكمة» إلا أن شيئا ما تغيّر.
فما الذي حدث؟
نحن
لا نعرف متى بدأ الشعر، ولا نعرف كيف كان شكله قبل أن يصلنا بشكله النّاضج
الذي أطلق عليه اسم الشعر الجاهلي. ولكننا نعرف أن هذا الشعر وثيقة
تاريخية مهمة لحقبة معينة من تاريخ العرب، وأنّها لا تزال وثيقة خاما لم
ندرس سوى بعض السطحيات منها، وبقي الكثير من محتوياتها العميقة مستورا تحت
تلك الدراسات. وعلى هذا الأساس سواء كان الشعر وصفيا أو وجدانيا أو
تعليميا، أو ملحميا أو غير ذلك من أنواع الشعر السائدة آنذاك إلا أنه لم
يثر الأسئلة ولم يوصف بالمعقد واللامفهوم، إلا حين بلغ مرحلة تلاعبه باللغة
وخروجه من نسق التعابير المباشرة والواضحة. حين غيّر من سحنته ولباسه
وأصبح يشبه الرموز واللوحات التشكيلية التي كسر أصحابها النمط التقليدي في
الرسم فظهر نوع تجريدي وآخر سريالي وأنواع أخرى لم تعد تنقل الواقع كما هو،
بل تمنحه إضافات شخصية نابعة من جوهر النظرة الخاصة للفنان.
وإن كانت
الألوان والصورة عموما تجد استحسانا لدى النّاظر والمتأمل، فإن الكلمة
تحتاج لأضعاف تلك القدرة لفهم أبعادها، الشيء الذي صعب على شعوب دخلت حروبا
وانتقالات مرحلية ومراحل غير مستقرة من التاريخ جعلت الخطاب السياسي
والديني أقرب إلى فهم المرء من خطابات المعرفة والمحبة والعقل.
الشاعر
في خضم مأساة التحوّل ودخوله هذه المراحل الجديدة من التّاريخ طرح الأسئلة
الصعبة، حسب رؤيته وتجاوب جوارحه مع ما عاشه من مآس ولمسه من أسرار الحياة
والموت، وعادة قبل إطلاق القصيدة التي وصفت بالمعقدة كانت الفلسفة قد وضعت
أسسها لتمتدّ مع الزمن في تفاصيل العلوم ومختلف الأفكار الإنسانية، ثم جاء
الشعر ليؤدي دوره ولكنه لم يسلم من التغيرات الحتمية لتلك الحقبة.
وإن
كان البعض يقول إن الفلسفة بدأت مع طاليس قبل 26 قرنا، فإن البعض الآخر
يميل إلى الاعتقاد الذي يعتبر العلوم كلها وليدة بعضها بعضا وأنها تتزاوج
وتتوالد تماما كأي شيء آخر في الكون. ويصعب معرفة الحقيقة بكل دقتها بتفكيك
ملايين السنين بمحتوياتها الفكرية والعلمية لمعرفة حجر البداية لكل علم.
قد تكون الفلسفة حقا أم العلوم كلها وسبب ما وصلنا إليه من اختراعات وتطور
تكنولوجي، أما تطور اللغة والشعر والموسيقى وباقي الفنون فإن منبعها مختلف
عن منبع الفلسفة نفسها. الأسئلة وليدة الفلسفة.. الأجوبة غير المقنعة تلد
مزيدا من الأسئلة،
ومسار الأسئلة المستمر عمل شاق واجتهاد إنساني متواصل لبلوغ الحقيقة.
أمّا
حين تنهكنا الأسئلة وتتوقف محرّكات العقل عند عقدة ما، نستنجد بالشعر،
والموسيقى والفنون لتهدأ الآلة الخفية التي تشتغل في رؤوسنا وتحرمنا أحيانا
من النّوم. ثم جاءت هذه القطيعة اللامفهومة بين الفنون وبعض الشعوب، ولا
ندري هل البؤس الذي تعيش فيه نتيجة لتلك القطيعة أم أنه سبب لها. حقيقة لا
نعرف، لأن الشعوب المتحضرة تُعرف بمقدار ازدهار الشعر وأنواع الفنون فيها.
وقد بدأت بعض المجتمعات الراقية بالتقهقر بمجرّد ابتعادها عن الفنون.
وقديما
قيل إن الشعر توأم الحب والحكمة. كما قيل أيضا إن الشعر لا يمكن فهمه لأنه
ينبع من الرّوح. ومن يعرف ما الذي ينبع من الروح وما الذي ينبع من العقل؟
هنا تقف الفلسفة بين حافات الحقائق التي لا ندركها، وهي بشكل ما تقدم نوعا
من الأجوبة التي تحتاج لمزيد من التمحيص رغم قبولنا لها. لا حقيقة مطلقة.
ولا جواب نهائي أمام معادلات الشعر وفنون الكلام والتعابير البشرية عن
مكنونات الدّاخل التي لا ترى. نحن نقول الأشياء كما نشعر بها أو كما نراها
بمنظورنا الخاص جدا، وحتما يلزمنا جمع التراث الإنساني كله في زجاجة واحدة
ومحاولة فهم محتواها. يجب أن نعيش داخل الشعر لنستوعبه كما قالت رنيه شديد.
ويجب أن نكون مدمنين على المعرفة لنتعاطى الفلسفة، كما قال فنسنت
سيسبيديس. ويجب أن نقرأ أبا العلاء المعرّي لنفهم الشعر والفلسفة معا. هذا
إذا اعتبرناه شاعرا وفيلسوفا من دون الدخول في تفاصيل معتقده الديني الذي
ظلّ عائقا يمنع كثيرين من اكتشاف الرّجل، مثله مثل الحلاّج الذي رغم فلسفته
الواضحة المختصرة في مقولته الشهيرة: «ما رأيت شيئا إلاّ رأيت الله فيه»
إلاّ أنه قتل بعد أن تمّ تكفيره، ويبدو جليا أنه سبق زمنه بمئات السنين، إذ
عاش حياته وهو محاط بهالة من الإيمان ما دام كل شيء يقع عليه بصره يزيد من
إيمانه وتفانيه في تسبيح لله.
ولنقل أن حظ الحلاّج كان سيئا أمام حظ
المعري، حتى إن كانت مسألة الحظ هذه نسبية. لكن المؤكّد عند كليهما أن
الفلسفة هي التي أوصلت الأول إلى قبره والثاني إلى الزهد الكامل في الحياة.
أمّا ذخائر ما تركاه من شعر ورؤى فلسفية فحتما لها أهمية الكنوز الثمينة،
لكن وحده الله يعلم متى نستفيد منها لأننا إلى يومنا هذا ندور في المتاهة
نفسها، ولم نخرج من ذلك النفق القديم الذي قتل فيه الحلاج بسبب ذكائه.
أظن
انّ التعقيد يكمن في أن الفلسفة والشعر شجرتان متعانقتان، تكبران معا
وتتبادلان الأدوار، أحيانا تحرص شجرة الفلسفة على إعطاء ثمار واقعية يتلذذ
بها قاطفها، وأحيانا أخرى تأخذ شجرة الشعر من ثمار الثانية لتحولها إلى ما
هو ألذ، بخلق صورة لها تفوق ما يمكن أن تتخيله شفاه قاطفها. الفلسفة تحتاج
إلى جسد لخلق اللحظة، والشعر يخلق من اللحظة جسدا لها.
أعرف أن الموضوع
معقد، وقد طرحت الأسئلة من دون أن أقدم الإجابات، ربما لأنني بدأت مقالي
بطرح فلسفي، والفلسفة لا تعترف بالإجابة بقدر ما يهمها السؤال، أما الشعر
فهو عكسها تماما، يجيب الشعر على كل شيء حتى أننا أحيانا نرى ما تصعب رؤيته
بعيون الشعر لأن أعيننا لا ترى بعيدا. ونفهم تقلباتنا وانكساراتنا
وهفواتنا وأخطاءنا وأسباب فشلنا فجأة حين نرتطم بنص شعري صغير يختصرنا حتى
العظم.
الآن إن لم تفهموا نصا شعريا يغوص في التعقيد فلا داعي للسخرية
من صاحبه، لأنه حتما فيلسوف، أدخلوا فضاءاته من باب الفلسفة وإن لم
تستطيعوا فاذهبوا للشعر الذي ألفتموه لكن لا تقاطعوا الشعر. وتذكروا أن
الحلاج والمعري يعيشان إلى يومنا هذا بيننا، بسبب كل ما أثاراه من أسئلة.
فلا تخافوا من الفلسفة إن لها أجنحة تسافر بكم عبر الأزمنة كلها.
شاعرة وإعلامية من البحرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق