تأنيث العالم
بروين حبيب
من
أجمل الصدف التي حدثت لي هذه الأيام التقائي بشيخ جليل، وعالم دين معروف،
لكنني حين استسمحته أن أستدل بكلامه خلال حديثنا طلب مني أن أبقي اسمه
بعيدا عن الإعلام. والحقيقة أنني فوجئت جدا برأيه حين حدثني عن الشعر
والرواية، فاكتشفت أن عمامة الرّجل لا تعني أنه كائن يعيش في فلك بعيد عن
العالم، كما كنت دوما أعتقد ويعتقد أغلب جمهور الأدب وغير الأدب.
حين
علم أنني شاعرة، حدثني عن رؤيته للشعر الذي تكتبه النساء، والرواية التي
بدأت تطفو على سطح المشهد الثقافي بأسماء نسائية، حيث قال: «العالم يمضي
نحو التأنيث». وللحظة ظننت أن الرّجل يسخر مني، فقد بقيت للحظات وأنا أسمعه
متأثرة بعمامته وزيه الديني المحض، لكن حين مضى في تحليلاته أصبت بما يصيب
الشخص حين يكتشف أنه لا يحلم وإنما يعيش حقيقة أغرب من الخيال.
في
حديثه عن الرواية تحدث مطولا عن تاريخ قمع المرأة، وكيف أن رجال الدين أول
من قمع المرأة في كل الديانات، وأنهم ربطوا المرأة بالخطيئة دائما، كجسد،
كصوت، كحضور، ككيان مستقل، وحتى كشريكة حياة للزوج وهذا أدنى حقوقها.
يشير
الشيخ الجليل إلى أن ما تكتبه المرأة اليوم هو إشارة إلى أن العالم ذات
يوم وليس بعيدا ستستلم دفة القيادة، وذكرني أن الحرب العالمية الثانية كانت
سببا في استنزاف الرجال لأنفسهم في حروب لا معنى لها، انتهت كلها
بالهزيمة، وأكبر خاسر فيها كانت الذكورة، لأن ما بعد هذه الحرب قلب
الموازين، حين أخذت المرأة دورا قياديا في ترميم ما أفسده الرجال. شهادة لم
أتوقعها من رجل، خاصة من شيخ مسلم كل اهتماماته تنصب على دين الأمة. وقد
أشرت له سريعا إلى ما يحدث في العالم الإسلامي من حروب وتصفيات ومجازر،
وقلت له متشائمة، إن وضع النساء سيئ ولا أظنه سيتحسن.
لكنه أصر على أن
الوضع اليوم «مخاض» لولادة عهد جديد، فالمرأة خلال صراعات الرجل على السلطة
وآبار البترول ومناطق الثروات المعدنية والمياه، وجدت متسعا للتعبير عن
تاريخ مواجعها، وبدأت ترسم حدودا لها في كل مكان، كأنّها تنتقم لنفسها.
اليوم
نجد المرأة في كل مكان، ونجدها فجأة تبلغ مراكز مهمة، رغم محاولة الذكور
تهميشها.. ثم يضيف الشيخ وهو يبتسم «المرأة اليوم انتصرت في السرد، ولامست
قلوب الناس بلغتها الشعرية، حتى إن لم تكافأ كما يجب». هل أعتبر شهادة هذا
الشيخ رسالة للمجتمع أجمع؟ أم أكتفي باعتبارها شهادة ثمينة لصالح إنجازات
المرأة الأدبية وغير الأدبية؟
وفجأة كما لو أنني أنا
الأخرى لم أنظر حولي جيدا ولم أر ما حققته النساء، خلال ما عشته من سنوات،
انتبهت إلى أن تطور المرأة كان سريعا جدا في السنوات الأخيرة، ولكنّنا
بحكم تربيتنا والأجواء المحيطة بنا، نركز دوما على الجانب المظلم من الكأس.
وإن كانت المرأة اليوم تباع وتشترى في أسواق
النخاسة في بعض المناطق التي سيطر عليها المتطرفون، فإنها في مناطق أخرى
تركت بصماتها التنويرية إلى الأبد.
من تكتب كتابا أو
تنجز أي منجز آخر، يصبح الوقت متأخرا لتحطيمها وإنهائها. ولنتذكر أن أول
جامعة عربية، جامعة القرويين في المغرب الأقصى أسّستها امرأة، وهي السيدة
فاطمة الفهري، ولنتذكر أن أغلب الجامعات اليوم يديرها رجال، لأنهم دوما
أحبوا أدوار القيادة، لكن أكبر عدد من طلاب الجامعات العربية إناث. ويبلغ
أحيانا عدد الإناث في بعض الجامعات ثلاثة أرباع عدد الذكور. هناك خوف من
المرأة أيضا، وتعبير واضح عن ضعف الرجل خاصة في هذه المرحلة.
والتّطرف الديني والاعتداء على المرأة هو أول مظاهر هذا الضعف، كون الرّجل عاد للغة البدائية وأصبح يستعمل العنف ضد أنثاه وضد نفسه.
العنف
ضد المرأة يستعمل أيضا في محاربتها على جميع الأصعدة، وانتقادها على أنها
الأسوأ، والاهتمام بأمورها الحياتية أكثر من الاهتمام بتطوير الذات
الذكورية، وحماية العائلة، والمجموعات البشرية التي يفترض أنها ذكية. وهذا
يبدو سلوكا غريبا من أغلبية الذكور الذين تعتني بهم أمهاتهم منذ ولادتهم
إلى أن يشتد عودهم، ثم يُسخّرون قوّتهم لمحاربة جنس أمهاتهم. والأسوأ أن
المتتبع لبعض الأشرطة التلفزيونية عن حياة القبائل البدائية في أفريقيا
وأستراليا مثلا يكتشف أن الرجل البدائي لا يعامل أنثاه بالعدائية نفسها
التي يستعملها أصحاب ربطات العنق والبدلات الأنيقة ضد الإناث، ذلك أن الرجل
لا يخطر بباله أن تلك الأنثى خطر عليه، حتى جسدها العاري يحترمه، ولا
يلمسه ولا يقترب منه احتراما لقواعد الجماعة التي لم تتلوّث بعد بأفكار
تفخيخية، تجعل الرجل في خطر إن ضعف أمام جمال الأنثى، أو مال نحوها عاطفيا
وغرائزيا.
هناك مشكلة كبرى إذن نعيشها اليوم، حين
يصبح نتاج المرأة على جميع الأصعدة عملا ناقصا في نظر رجال يفترض بهم أن
يكونوا أول المشجعين للرؤية الموضوعية له.
أقول ذلك
وكل حديث الشيخ الجليل في رأسي، وأحاديث أخرى لنقاد وكتاب ومثقفين يقللون
من قيمة ما تنتجه المرأة، حتى في قائمة الترشيحات للبوكر، لاحظت أن أغلب
الأعمال المقدمة لكتاب رجال، ذلك الناشر نفسه له ثقة أكبر في ما ينتجه
الرجل، مع أنني ومن دون مناورات كلامية أو تنميقات مفتعلة أقرُّ بأن المرأة
تتقن فن السرد أكثر من الرجل. فالنصوص التي أزيحت عن القوائم النهائية
للبوكر لم تكن سيئة بالمعنى الذي يتخيله البعض، لكن بعضها مكرر، ومن بين
هذه الأعمال صرخة المرأة الدائمة بسبب وجعها. وقد حضرتني مقولة الكاتب
الفرنسي غيُّوم ميسّو «أننا يستحيل أن ننسى الألم، إنه سجادة مفروشة في
قلوبنا، لكننا على الرغم من ذلك نبقى على قيد الحياة».
وسيدات القلم اليوم،
رغم سخرية البعض من آلامهن وشهاداتهن الصادقة عن تجاربهن الحياتية، باقيات
على قيد الحياة، ولأن أصواتهن أصبحت كثيرة فهذا يعني أن البذور التي ظنها
البعض ماتت بدأت تخرج من جوف القبور وتنمو من جديد. لا أتوقع سوى أن هذه
المرأة هي مستقبل العالم العربي، وأنها تعيش قسوة المخاض لا غير. أقول هذا
وفي رأسي أشياء كثيرة، فخارج المشهد الثقافي نرى الإبداع النسائي في كل
مكان، إذ لم تتوقف أيديهن الناعمة أبدا عن الإبداع، لم تتوقف حتى في أعتى
الحروب عن منح الحب لأولادها، والحفاظ على حياتهم، فيما رحى الأحقاد تدمر
الأرواح خارج حضنها، حتى أعنف المهن التي كانت حكرا على الرجال فقط لجأت
إليها المرأة لتوفر لقمة عيش أبنائها، وهذا يعني أنهم في فورة غضبهم
وتناحرهم بسبب أطماع وهمية تكون المرأة قد أخذت أماكنهم الشاغرة.
لقد
بلغت المرأة مرحلة اللاخوف من قول الحقيقة بشأن نفسها، وهذا ما لم أجده في
أغلب ما كتبه الرجال، علما بأن هذه الشجاعة ترجمتها فرجينيا وولف قائلة
«إذا لم تقل الحقيقة بشأن نفسك، فكيف يمكنك قولها بشأن الآخرين؟».
والآن لا تتعاملوا مع مقالتي بغضب، كونوا هادئين وعقلانيين وأنتم تعلقون على الموضوع. وكل عيد أمهات وأنتم جميعا بألف خير.
كاتبة واعلامية بحرينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق