الخميس، 2 أكتوبر 2014

الانتحار في مصر.. قراءة موضوعية لواقع معقد



الانتحار في مصر..

 قراءة موضوعية لواقع معقد

رأي القدس




شهد شهر ايلول/سبتمبر الماضي عددا قياسيا من حالات الانتحار في مصر ، بلغ احدى عشرة حالة، (بينهم ثلاث سيدات وطفلة) يعود اغلبها الى سوء الاوضاع المعيشية والمالية، وهو ما يمثل صدمة في بلد ليس معروفا بهذه الظاهرة التي تتنافى مع القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية، وان كانت الاحصائيات تشير الى ان مصر  شهدت تزايدا في حالات الانتحار خلال الاعوام الثلاثة الماضية. 

وعمد بعض المنتحرين الى اللجوء الى اختيار وسائل ذات معنى لتنفيذ مخططاتهم، مثل الشنق على لافتة اعلامية ضخمة في طريق القاهرة  – الاسماعيلية الصحراوي، او كوبري قصر النيل في قلب القاهرة ، او تحت عجلات مترو الانفاق في القاهرة  او عجلات القطار في المنيا وغير ذلك، في مشاهد مروعة غير مألوفة، وهو ما فسره طبيب نفسي في تقرير خاص نشرته «القدس العربي» الاسبوع الماضي، بأن المنتحرين»ارادوا ان يوجهوا بموتهم رسالة احتجاج للمجتمع».

ولكن يبدو ان المجتمع لم ينتبه كثيرا الى تلك الرسالة، بفضل وسائل الاعلام الحكومية التي تعمدت التعتيم على هذه الظاهرة، بل ان احدى الصحف المقربة من النظام ألقت اللوم على المنتحرين انفسهم، واتهمتهم بـ «اللجوء الى وسائل استعراضية للانتحار في تشبه بالتونسي بوعزيزي(..)». واعتبرت ان المطلوب لمواجهة هذه الظاهرة هو «تشديد الخطاب الديني لتحذير الناس من عقاب المنتحر(..)» الا انها لم تفكر في البحث في اسباب الازمات التي دفعتهم للانتحار، وكيفية معالجتها، ومسؤولية النظام على هذا الصعيد، خاصة ان تزايد حالات الانتحار تزامن مع مرور مئة يوم على تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم.

وفي المقابل تعمدت وسائل اعلام مقربة لجماعة «الاخوان» استخدام الظاهرة سياسيا مكتفية بتسجيل نقاط ضد النظام، من دون ان يهتم احد بدراسة تقدم قراءة اقتصادية واجتماعية للواقع الذي قرر اولئك المنتحرون ان الموت نفسه اصبح افضل منه.
وهنا يجب التوقف عند حقائق موضوعية، ربما ترسم جزءا بسيطا من هذا الواقع المعقد. 

اولا : حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن عدد قوة العمل في مصر يبلغ 27.2 مليون فرد، وتصل نسبة البطالة بينهم 13.4٪، بزيادة تتراوح بين 4٪ ـ 5٪، على مدار السنوات الثلاث الماضية، وهو ما قد يقدم احد التفسيرات لاتساع ظاهرة الانتحار. ولم يقدم الرئيس السيسي حتى الان برنامجا او خطة اقتصادية واضحة لمواجهة ازمة البطالة، باستثناء العمل على تشجيع الاستثمار، وهو ما يبدو صعبا في ظل استمرار الاضطراب الامني.

ثانيا: لم يقدم النظام دليلا عمليا على جديته في العمل على تحسين الخدمات الصحية والتعليمية بشكل خاص، وهي الاكثر تدهورا خلال الأعوام الاخيرة. اذ لكي يحظى المواطن بعلاج جيد على نفقة الدولة، يتحتم عليه ان يكون من فئات الفنانين او الرياضيين او الاعلاميين او الجيش او الشرطة، والا فليس امامه سوى العلاج في المستشفيات الخاصة بتكلفة باهظة، ان كان قادرا، او ببساطة انتظار الموت.

 اما على مستوى التعليم، فقد شجع حال الانهيار الشامل الذي تعرفه المدارس الحكومية، اصحاب المدارس الخاصة على المغالاة في المصروفات السنوية للدراسة، ووصل بعضها الى ثمانين الف جنيه مصري (اكثر من عشرة الاف دولار) للصفوف الابتدائية، وهو مبلغ يكفي للحصول على درجة الماجستير في بعض الدول الاوروبية(..).

ثالثا: مع زيادة الاسعار التي شملت الوقود والكهرباء وبعض السلع الحيوية، لم توفر الحكومة اي شبكة امان للمواطنين الاكثر عوزا، بل ادارت ظهرها الى اعتصامات واضرابات عمالية في العديد من المصانع بحجة «عدم وجود ميزانية»، بينما استمرت مظاهر البذخ في الانفاق الحكومي، في العديد من المجالات، وبينها سفر العشرات من الصحافيين الموالين للنظام على نفقة الدولة في رحلة السيسي الاخيرة الى نيويورك، رغم ان مؤسساتهم تستطيع تحمل تلك النفقات.

 وعلى الرغم من تطبيق الحد الاقصى للاجور، الا ان كثيرين من «الموظفين المحظوظين» في الدولة، مازالوا يتقاضون ملايين شهريا، تحت مسميات لانهائية ابتكرتها البيروقراطية المصرية. ولاينفي هذا حقيقة ان النظام نجح في حل بعض الازمات الهامة خلال وقت قصير بينها نقص الخبز المدعم وسوء حالته، واحتلال الباعة الجائلين لوسط القاهرة.

رابعا: احاط الرئيس السيسي نفسه بجوقة من الاعلاميين الفلول والمنافقين، يتدافع بعضهم كالاطفال للحصول على مقعد بالقرب منه في الاجتماعات الدورية التي خصهم بها، وهو ما يثير احباطا واسعا عند اغلب المصريين، خاصة ان اولئك الاعلاميين لايكفون عن استفزاز الشعب باهانة ثورته في 25 يناير(في مخالفة صارخة للدستور)، وكيل المديح للرئيس الاسبق حسني مبارك توطئة فيما يبدو لاعلان براءته. 

ويستطيع النظام ان يواصل ادارة ظهره، او يعتمد على «الاستثمار الاعلامي والعاطفي» في بعض المشاريع مثل محور قناة السويس، لخلق اجواء من التفاؤل، لكن هذا لن يغير الواقع، بكل احباطاته التي تدفع نحو ثلاثة آلاف مصري (تحت الاربعين) الى محاولة الانتحار سنويا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق