الفراغ السياسي هو مقتل الثورة
الفراغ السياسي هو مقتل الثورة
بقلم / د . يونس فنوش
مقدمة …
بعث إلينا الدكتور يونس فنوش هذه الرسالة .
الأصدقاء الكرام…
وجدت
في أرشيف المقالات التي كتبتها منذ بداية الثورة، هذه المقالة التي أرسلها
إليكم بعنوان (الفراغ السياسي هو مقتل الثورة) وقد كتبت بتاريخ 4/8/2011
أي إبان احتدام معارك التحرير والثورة.. وللأسف أجد أن ما تحدثت عنه هذه
المقالة قد تحقق بالفعل، وأن الرسالة التي تضمنتها ما زالت صالحة لأن توجه
من جديد، عسى أن تعيها النخبة السياسية في البلادولكم جزيل الشكر وأطيب التحية
د.يونس فنوش
المقالة
منذ البداية كان للقذافي هدف
محدد واضح، هو أن يستولي على السلطة، ثم يسعي للانفراد بها وحده، لا دون
سائر المواطنين فحسب، ولكن حتى دون رفاقه الذين خاضوا معه مغامرة الانقلاب
على السلطة، وكان يمكن جداً أن يدفعوا حياتهم ثمناً لتلك المغامرة، لو أنها
فشلت في تحقيق هدفها.
وكان أحد أهم العوامل التي
ساعدته في تحقيق ذلك الهدف حالة الفراغ السياسي الذي وجد عليه البلاد، فقد
استلم القذافي مقاليد الأمور في وقت كانت البلاد خالية فعلياً من أية قوى
سياسية منظمة، ربما كان بإمكانها أن تقف حاجزاً دونه وتحقيق أهدافه
للانفراد بالحكم والاستبداد بالسلطة. ومهما اختلفت آراؤنا حول تحديد مدى
المسؤولية التاريخية عن ذلك، ومن يتحملها كلها أو القدر الأكبر منها، أهو
الملك إدريس رحمه الله، أم هي تلك الفئة التي كانت تدور في فلك العصبية
القبلية والجهوية، أم هي النخبة الفكرية والسياسية التي لم تمتلك القدر
الكافي من قوة الحضور في الشارع السياسي، بحيث تنتزع حقها الذي كان يكفله
لها الدستور في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي؛ نقول مهما اختلفنا في
تقدير هذه المسألة، فإننا لن نختلف حول حقيقة أن ليبيا كانت في أواخر العهد
الملكي، وخاصة منذ سنة 1967، قد انتهت إلى الخلو التام من أي قوى سياسية
تتمتع بوجود قانوني دستوري، يتيح لها حرية الحركة في أوساط الشعب، لتنمية
الوعي السياسي العام بالحقوق والحريات، وبأهمية أن يقف المواطنون يداً
واحدة للدفاع عن تلك الحقوق، ضد أي محاولات للعدوان عليها أو الانتقاص
منها، ناهيك عن مصادرتها وحرمانهم منها تماماً.
وهكذا فعندما استولى القذافي
على مقاليد الأمور، لم يجد من يقف له بالمرصاد للدفاع عن الشرعية،
وللحيلولة دون تمكنه من العدوان على الحقوق والحريات الأساسية، ولم يجد أي
صعوبة في قمع المخالفين في الرأي أو المشتبه في أنهم قد يكون لهم رأي
مخالف. ولما لم تكن ثمة قوى سياسية تمتلك تلك القوة الشعبية القادرة على
الصمود في وجه توجهات الاستبداد والقمع، فإن القذافي وجد المخالفين
والمشتبه في مخالفتهم لقمة سائغة لآلة قمعه واستبداده، فأخذ يستهدفهم
واحداً واحداً، وجملة جملة، ولم يجد هؤلاء من يقف للدفاع عنهم، أو يحتج على
حرمانهم من حقهم المقدس في امتلاك الرأي والتعبير عنه.
ولم يلبث القذافي أن وضع
التشريعات المباشرة التي تصادر حرية الرأي، وتجرم امتلاك أي رأي يصنف على
أنه “ضد الثورة”، وهو التعبير الذي يعني بدقة “ضد قائد الانقلاب”، وما كان
يخطط لبثه في الناس على أنه فكره البديع الذي يملك وحده صفة الحق والصحة،
وأن من يختلف معه خائن، ينبغي ردعه وقمعه، وإن لم يرتدع أو يتسنى قمعه، فلا
بأس من تصفيته.
وبعد أن تمكن القذافي من بسط
هيمنته المطلقة على ساحة الفعل الفكري والسياسي، عبر ممارسات القمع
والإرهاب والسجن والتقتيل، استقر له الأمر دون كثير إزعاج أو قلاقل، ثم
مكنته ثروات ليبيا الطائلة من التلاعب بالكثير من معطيات السياسة في
العالم، فاشترى صمت العالم عن ممارساته الإرهابية القمعية ضد الشعب الليبي،
وممارساته المشاكسة المدمرة في أنحاء كثيرة من الدنيا.
ومنذ مرحلة مبكرة من حكمه راهن
القذافي على استثمار العصبية القبلية لمصلحته، فأخذ يكثف الممارسات
والمبادرات لإحياء هذه العصبية، وتمكينها من أن يكون لها دور ومكان مهم في
التركيبة السياسية والاجتماعية في البلاد، ولم يلبث أن انتهى الأمر إلى أن
باتت القبيلة هي الإطار الذي تدور داخله حركة النظام السياسي، فصارت
المعايير القبلية هي التي تتحكم في وصول الأشخاص إلى مواقع المسؤولية
والسلطة، بعد أن تحولت هذه المواقع إلى مجرد منافذ لمختلف ممارسات الفساد
المالي والإداري، وباتت القبائل تتكالب على اقتسامها والتنافس عليها، لا من
أجل خدمة المصلحة الوطنية العامة، بل من أجل تحقيق المنافع الشخصية
المباشرة.
وها نحن أولاء نعيش هذه الأيام
بوادر توحي بأن الرابطة القبلية آخذة في الانتعاش والعودة إلى الحياة من
جديد، فشهدنا كيف أسست مجموعات مسلحة على أساس قبلي، ونكاد نشهد توجهاً لدى
بعض المحسوبين على النخبة المثقفة في البلاد لاستثمار العصبية القبلية
لتحقيق مآرب شخصية، تتخفى وراء ستار المظلة السياسية، فتسعى لبث دعايتها
الحزبية في أوساط القبيلة التي ينتمون إليها، ويراهنون على أنهم سيحصلون
على تأييد أفرادها لهم عندما تحين آجال المنافسات الانتخابية، عند الشروع
في بناء المؤسسات الدستورية للدولة الجديدة.
ويأتي ما نشاهده الآن من
تحركات تتم تحت مظلة القبلية في إطار الانعكاسات المؤسفة لعملية اغتيال
الشهيد اللواء عبد الفتاح يونس منذراً، في تقديري، بخطر حقيقي، ذلك أننا
نشاهد كيف تتحرك القبائل لمواجهة الموقف، وتبادر إلى التنادي لاتخاذ مواقف
مشتركة، فتسعى لتشكيل وفد يفوض لمخاطبة السلطات المسؤولة في المجلس الوطني،
وتقديم مطالب محددة.
ولعل هذا التحرك لا يمثل في
ذاته أمراً مرذولاً ومستهجناً، فمن حق آل الشهيد عبد الفتاح وقبيلته ومن حق
القبائل الأخرى التي تنظر إلى العملية الغادرة بأنها تستهدف الوطن كله لا
قبيلة أو عائلة بعينها، أن تتحرك لفعل شيء ينبغي أن يقوم أحد بفعله.
وهنا أصل إلى مغزى حديثي هذا
وهو فكرة أن ما يدفع القبائل إلى التحرك والمبادرة أنها لم تجد من يقوم
بذلك، فيحمل العبء عنها، ويتحمل المسؤولية، فقد وجدت أن الساحة السياسية
فارغة تماماً من أي قوى مدنية قادرة على القيام بالفعل والحركة، وكان لابد
من أن يقوم أحد أو جهة ما بملء هذا الفراغ.
وفي تقديري أن النخبة السياسية
في البلاد، إن وجدت، تتحمل مسؤولية تاريخية في هذا الظرف العصيب
والاستثنائي، تتمثل في أن تبادر إلى الفعل، بتكثيف جهودها لتكوين القوى
السياسية القادرة على ملء الفراغ، والمؤهلة لحمل العبء، ثم بالسعي لبلورة
مواقف وطنية تسمو على أية تباينات أو اختلافات فكرية أو إيديولوجية، فتوحد
جهودها للتعامل الواعي المسؤول مع تحديات المرحلة الصعبة التي نمر بها، قبل
التحرير وبعده.
ومن هنا فإني أرى أن هذا
الفراغ السياسي يمثل المقتل الذي يمكن أن يودي بالثورة كلها، ويجهض الآمال
العريضة التي فتحت الثورة آفاقها لتأسيس دولة مدنية، تقوم العلاقة فيها بين
المواطنين على مفهوم المواطنة والولاء للوطن، متسامية على تلك الرابطة
الاجتماعية التي تربط بينهم في إطار الانتماء القبلي البحت.
وهذه دعوة صريحة وملحة لأن
ترتفع القوى السياسية إلى مستوى المسؤولية التاريخية فتبادر إلى تأسيس
تنظيماتها وروابطها، وتسعى لتقوية صفوفها بالمواطنين الملتقين فيها على
رابطة المبادئ والأفكار، لا رابطة العلاقة الاجتماعية، حتى تصبح قادرة على
ملء الفراغ، وسد الثغرات التي نخشى أن تنفذ من خلالها النعرات القبلية
والجهوية وغيرها إلى جسد الثورة، بجراثيم العصبية المنبوذة، والمصالح
القبلية الضيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق