الجمعة، 7 يونيو 2013


محمد قواص


 06 June 2013

جدل دار في أبو ظبي داخل مؤتمر نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.

في متن الجدل قلق من وسطية تنهال عليها الأصوليات قضماً، بحيث بات الاعتدال قيمة قيد الاندثار يجري العمل على صيانته وتحصينه وربما تلقيحه ضد أوبئة طارئة على تاريخ المنطقة وتاريخ الإسلام.

في بطن السجال غضب ضد ذلك الإسلام السياسي الذي حولته صدفة «الربيع العربي» من حيث لا يدري، وما زال لا يدري، من تراث معارض عهده إلى ارتجال حاكم يتخبط في تدبيره.

والغضب ينفجر ضد من التحق بثورة الآخرين، فتسلقها حاكما متسللا من صناديق اقتراع التي لطالما أجاد حكام الأمس، كما حكام اليوم استخدامها ذريعة للحكم.

في البحث والتأمل أخذت تجربة الإخوان المسلمين في حكم مصر نصيب الأسد من مساحات الحديث.

ربما لأن عددا لا بأس به من الباحثين والصحافيين المصريين تقدموا صفوف المتحدثين، وربما لأن مصير التجربة في مصر سيحدد مصير التجربة عامة في المنطقة برمتها.

لكن ذلك التخصص المصري للحالة الإخوانية أغفل تناولا ضروريا للحالة التونسية، ليس لما لتونس من أسبقية في تفجير هذا الربيع، بل لما للجدل العنيف بين الديني والمدني في هذا البلد من إيقاعات لافتة قد تمثل، مرة أخرى (بعد تجربة البوعزيزية في سيدي بوزيد) نموذجا يحتذى لمآلات ما بعد الثورة.

يُسجل للمؤتمر في أبوظبي ارتفاع سقف النقاش بين منتقدين ومدافعين عن التجربة الإخوانية.

فموقف الإمارات الرسمي المنتقد لتيار الاخوان في المنطقة لا يمنع فضاءات البلد وأروقة أبوظبي من تقديم ميادينها منابر لأهم جدل جلل حديث في المنطقة العربية.

مثلت طبيعة الأبحاث والمداخلات حقيقة المواجهة الحادة بين التيار الإخواني ومعارضيه. الموضوع ليس ترفا فكريا جدليا، بل معركة تخاض كل يوم في بيوت المصريين، لذلك انزلق ما يفترض به أن يكون بحثا أكاديميا إلى سجالات لطالما نصادفها تقليعة رائجة على شاشات الفضائيات.

 تفسير ذلك قد يولد من راهنية الحدث وضراوته، بما يُذيب أسوار التأني ويخلع مفاصل التأمل. في ذلك انحرف الخطاب العام إلى ما يشبه الردح ضد حاكم طغى وأطاح بحلم الثورة عند الناس.

على أن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، الذي نظّم المؤتمر، نجح في دفع المتكلمين إلى مراجعة فرضيات ومعطيات ومسلمات.

ذلك أن الجمهور يرفض الإستكانة إلى التلقي (التلفزيوني)، ويروم الارتقاء إلى ما يُخرج النقاش من روتينه وعاديات إيقاعاته. فالمشكلة مع الإسلام السياسي بطبعتيه الحاكمة وتلك التي تسعى لذلك، ليست في تفاصيل إدارته للشأن العام أو في ارتباك سلوكه في الحكم، على ما انحشر بعض المنتقدين للإخوان في تسويقه، بل في منهج فرض الدين على السياسة، أو بالأحرى فرض ما يريدونه من الدين لتثبيت عطشهم للسلطة.

لمناكفة الأخوان تبرعت ورقة للحديث عن أسرار داخل «معبد» الإخوان يميط اللثام عنها من خبرهم وكان يوما معهم.

في ذلك إضاءة على خبايا الزواريب الداخلية، لكنها تفتقر إلى إدانة الفكرة العامة، من حيث احتكار الإسلام داخل جماعة تقترب من فكرة الفرقة الناجية في تقسيم المسلمين بين مؤمن وكافر.

ثم أن في التجربة الشخصية رواية تفوح منها رائحة التشفي التي تقحم ما هو شأن هام بما هو شخصي فردي. بعض المنتقدين تبحروا في التدليل على غياب الإختصاص عمن أولي لهم شأن البلاد من الإخوان، على ذلك أن مهندسين وأطباء يحيطون بالرئيس مرسي وأن مفاصل الإدارة الإخوانية يعوزها أصحاب الاختصاصات. وفي ذلك وقوع في فخ القبول بمبدأ الهيمنة الإخوانية فيما لو وجد المرشد وصحبه أصحاب ذلك الاختصاص.

نسي البعض أن الوزارات شأن عام يقوده سياسيون، فلا حاجة لوزير الصحة أن يكون طبيبا أو لوزير الدفاع أن يكون جنرالا أو لوزير الزراعة أن يكون مهندسا زراعيا.

في ذلك خلط ما بين السياسة والتكنوقراطية، وعليه لا يمكن الاستكانة إلى إتهام الاخوان بأن لا اختصاصات لديهم لحكم البلاد، وكأنك تبرر للإخوان الكارثة التي يقودون بها بلدانهم، وتحشر إرباكهم فقط في قلة خبرة سيكتسبونها مع الوقت.

وحين يخرج في المؤتمر من يحذر من هذه المقاربة الركيكة في معارضة الإخوان والتي يفهم منها القبول بالهيمنة الإخوانية لو أنها أجادت تدبير الأمور بالمعنيين التقني والإداري، يأتيك ممن هم على رأس أحزاب سياسية في مصر ليتبرع بالقول أن المعارضة في مصر كانت ستقبل بحكم الإخوان لو أن إدارتهم للبلاد جاءت ناجعة حكيمة، ولا يمانع هؤلاء المعارضين من انتشار أحزاب إسلامية طالما أن أوروبا نفسها تقبل بالأحزاب المسيحية الديمقراطية.

وفي هذا عقم المقارنة بين أحزاب ديمقراطية تعمل وفق وعاء قيمي مسيحي يحترم الديمقراطية والتعدد والتنوع وأصول الحداثة وشروط العصر، وبين من يستخدم الديمقراطية والانتخابات وسيلة تسلل نحو السلطة، بعد أن نفذت الوسائل الأخرى. ناهيك عن سعي الإخوان على الجهر بفرض حكم الشريعة على مجتمع معقد التنوع في الأديان والطوائف، شديد التمسك بقيم العصر منذ البدايات النهضوية أواخر القرن التاسع عشر.

ثم إن الأحزاب المسيحية الديمقراطية تسعى إلى سحب الحداثة نحو المسيحية وليس العكس، فلا مطالبة بلاهوت كنسي على إدارة الشأن العام، ولا سعي إلى استعادة عصور هيمنة الكنيسة على الممالك والأمم.

المعارضة الحقيقة لحكم الإخوان في مصر وتونس تجري على قدم وساق في تفاصيل الحياة السياسية والثقافية للمصريين كما التونسيين. تقود الميادين مقاومة الفرد المصري (كما الفرد التونسي) لأمر الحكم الواقع في البلدين. في حراك النساء والشباب، وفي مقاومة أهل الفن والأدب والثقافة، وفي عناد النقابات وأصحاب الحرف، وفي تمنع أهل القضاء والقانون، وفي ضراوة الرفض التي فجرتها الثورات، ما هو أمضى وأنجع من ضجيج نجوم الفضائيات من المعارضين الذين يتحملون قسطا وافرا من مسؤولية وصول محمد مرسي وصحبه لحكم مصر.

وحين كنا نحذر من خلط السياسي بالديني وإقحام المقدس بالوضعي، إرتكبت أسماء كثيرة (معارضة هذه الأيام) خيار دعم الخيار الإخواني ضد ترشح أحمد شفيق.

هم يندمون اليوم ويصرخون لهدم معبد شاركوا في بنائه وجهدوا لتمتين أواصره. ولا شك أنهم غدا قد يبدلون خيار اليوم تحت شعار «لو كنت أدري» الشهير الذي إبتدعه وبرع به أمين عام حزب الله في لبنان. من صنع الثورة في مصر هم شباب تمردوا على الطبقة السياسية حاكمة ومعارضة.

شباب تخلصوا من عفن تجربة سياسية مرتبكة في الحكم، ومتخلصة من أوبئة الأيديولوجيات بطبعاتها الدينية والقومية والأممية.

شباب يعيشون العولمة والتواصل مع العالم ببراعة كاملة لا يرومون من حراكهم إلا ربط مصر بعربة الكون الحاضر، لا شدها نحو كهوف الماضي، سواء كانت هذه الكهوف تتستر بالدين أو تستلهم كهوف القوميين العرب ويساريي موسكو الإتحاد السوفياتي.

فالجدل الراهن في مصر تاريخي يحدد بوصلة مصر والمصريين نحو المستقبل، ولا يمكن أن يتقزّم ليصبح حفلة تصفية حسابات سطحية بين أهل النظام السياسي البائد بفلوله ومعارضيه. إخراج مصر من هيمنة الإخوان يحتاج لما هو أذكى وأعمق من عجلات يقذفها معارضو الفضائيات فتسوء الرماية على الهدف الحقيقي وتحيد عن الإمساك بلب العلة وتتلذذ في التعامل مع قشورها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق