الأحد، 15 مارس 2015

أين معاوية الرواحي؟ :: فاطمة الشيدي


أين معاوية الرواحي؟

فاطمة الشيدي



يمثل معاوية الرواحي ظاهرة ثقافية وأدبية تستحق الوقوف عندها والتمعن في سيرورتها الإبداعية، ومتابعة نتاجها الأدبي المتنوع بين الشعر والقصة والسيرة الذاتية، والتدوين النصي العابر للأجناس (النص المفتوح).هو شاعر وكاتب ومدوّن عماني من مواليد 1983، أصدر ثمانية كتب في الشعر والقصة والتدوين، وله مدونة واسعة الحضور، وقناة مرئية على اليوتيوب. ويستحق معاوية الوقوف مليا عند تجربته، لسببين رئيسين:

الأول:
خروجه على النمطي والسائد في الكتابة والمجتمع: فمعاوية يمثل حالة شطط شخصي ونصي على كل قواعد السمت الإبداعي التي يعيشها، أو يحتكم إليها، أو يسير ضمنها خارجيا على الأقل أغلبية الكتاب في عمان وربما خارجها، حيث يحاول الجميع خلق معادلة متوازية ومتوازنة نسبيا بين فروض الإبداع، وفرضيات المجتمع الأخلاقي والعرفي، في حالة من النفاق «الحميد» لأن الخروج على المجتمع له ضرائب كثيرة ليس الجميع قادرا عليها. أما معاوية فقد اختار وعن سبق قصدية وجنون، الخروج الصريح والواضح على تقاليد وسلوكيات المجتمع «الصارمة والمنضبطة بقانون جمعي عرفي عام» بكل وضوح، بل عمد إلى كتابة محتفياته الخاصة بهذا الخروج، وفضح علائقه المنبتة معه، وتعرية كل ما لا يتوافق مع روحه النزقة من أعراف المجتمع وسلوكيات أفراده الكاذبة أو المنافقة أو المتحايلة على الحضور الرصين بأشكال غير صادقة تماما، أو تلك المتأرجحة بين القبول والرفض والامتثال الجهري والخروج الداخلي.

إن روحه الشاعرة والمتمردة والمرتهنة بكل شفافية ونزق لروح طفل أو مجنون أو كلاهما معا، هي أهم ما يميز شخصية وقلم معاوية الرواحي، مما جعله لا يأبه لمعايير وشروط المجتمع، وبالتالي فهو يطلق جملته اللغوية مع كل طارئ وحميم بكل صدق وشفافية، وكل ما يعنيه هو تسجيل ما يطرأ على ذاكرته أو فكره أو روحه من أحداث أو أفكار، ويطرحه للعام دون تمريره على الرقابة الذاتية، التي يخضع لها كل فرد منا، ليحدد ما ينبغي وما لا ينبغي أن يقال، ناهيك عن أن يدون ذلك ويظهره للعيان.

إن نص معاوية بهذا المعنى مرآة شفيفة لروحه ووعيه ولا وعيه، فكل ما يُحاكم في الخفي من الإنسان يعالجه معاوية لغة ونصا في الظاهر من القول والكتابة والتدوين، من الشك حتى اليقين، ومن الرفض حتى اللعن، ومن القبول حتى المحبة.

ولذا فكل الأفكار الكبرى منها والصغرى لها حق الحضور النصي بين متون معاوية الرواحي وهوامشه، كالرب، والمجتمع، والروح، والجسد، والذاكرة، والألم، والحب، وغيرها من الأفكار التي ناقشها الإنسان عقودا طويلة، وذهبت فيها وجعا وألما «الأرواح المعذبة» كروح معاوية، تلك الأرواح الهائمة في حذافير الوجود، وهوامشه ومراياه المنكسرة، وغير المهتمة بما تحمله من نزق طفلي وشطط مجنون إلا بالبعيد جدا أو القريب جدا من الأشياء والأفكار، تلك الأرواح الخارجة على النمط، وغير المعنية بالقواعد والثوابت من كل شيء في الحياة وفي اللغة معا.

السبب الثاني : هو الاحتفاء الخاص والحميم بالتدوين. في أمسية جمعتني بمعاوية وآخرين؛ كنا نناقش فيها النص الرقمي، صدمني معاوية ـ أنا المحتفية بفكرة المدونات قبله ربما، والتي كنت أرى في نفسي خروجا على الكثير من الثوابت المجتمعية ـ بفكرته المجنونة: «التدوين هي تلك الفكرة التي تجعلني أكتب بحرية داخلية وخارجية تماما، أي الكتابة بوزار وفانيلة». صمت وابتسمت حينها، لأنني أدركت فعلا أن هذه هي الفكرة الحقيقية لممارسة فعل الكتابة بكلها وليس التدوين فقط. 

فالكتابة هي القدرة على ممارسة التعري الداخلي، والكتابة من قلب الجرح تماما، من الجرح الشخصي والعام، نقد الذات أو جلدها إذا اقتضى الأمر، ونقد المجتمع بمواجهته ومقارعته، وإحداث ذلك الشرخ الخفي في ثوابته، ذلك الذي عليه أن يكبر ويتسع حتى يبيّن الخلل والعجز في منظومته عن اللحاق بركب العصر. ولذا لا عجب أن تصدى معاوية للكتابة عن أكثر المواضيع حساسية وجرأة، عن مواجهة أشرس الثوابت والهياكل الرصينة والأصنام، والوقوف أمام قوى يمكنها سحق وتمزيق كل خارج على قوانينها وثوابتها كما حدث كثيرا.

ومع هذا استمر معاوية في مشروعه الفكري واللغوي والإنساني على كل المستويات، فأظهر تمرده على الوظيفة والأسرة والمجتمع، وأشهر أفكاره بكل الممكنات الرقمية التي أتاحها العصر، ليحقق رسالته العميقة وهي كشف القبح، وفضح النفاق السائد، وتكسير القوالب الجاهزة، وإحداث كوة في جدار المجتمع البائد والذي يرفض كل جديد، بأمل أن يصل القليل من الضوء إلى العقول الجديدة (وهو منها) فيغير تفاعلها مع الجديد، ويجعلها تراجع الكثير من الأشياء الجاهزة، ولا ترى في كل طارئ شرا مستطيرا، مبرهنا على أن الكتابة هي روح الصدمة من جهة، وقابلية إحداث الدهشة من جهة أخرى.

لقد استغل معاوية التقنية الرقمية الجديدة استغلالا حميدا، فنوّع رسائله بين المسموع والمرئي والمكتوب، وكسب بذلك جمهورا رقميا عريضا، وناقش كل القضايا التي تخدم فكره وقضيته وهي «التغيير» على مستوى المجتمع والفكرة والنص.

ورغم كل المواجهات التي تصدت له وللغته، ورغم عدم تقبل ذائقتنا المدجنة والمصنوعة وفق معايير المجتمع والتي اعتادت النفاق، أو الكيل بمكيالين لكل ما يكتبه، ولكل الصرخات الجريئة التي تطلقها بين الفينة والأخرى روحه القلقة، ونفسيته التي ينهشها الاغتراب ويقصيها الاكتئاب عن الجمع الذاهب في الفرح الساذج والقول الجاهز، استطاع معاوية ذلك.

أكتب هذا المقال، والسؤال الذي يكبر في حناجر أصدقاء الكاتب من مثقفين وكتاب وفنانين ومواطنين عمانيين: «أين معاوية الرواحي؟» وكل ما يتردد حول اختفائه ـ بلا تصريح من جهة رسمية داخلية أو خارجية ـ أنه تم احتجازه على الحدود العمانية الإماراتية، بسبب تغريدات في مواقع التواصل الاجتماعي. والسؤال الأكبر إلى متى يظل الكاتب العربي عرضة للسجن التعذيب بسبب كلمة؟

كاتبة عمانية
فاطمة الشيدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق