كان
يتعين عليه أن يتمهل في قيادة شاحنته المستهلكة، فهي محملة بصناديق رُصَّت
بأسماك متنوعة وبراميل مياه فارغة. سار بها متعرجاً بالمسالك الضيقة، بين
الكثبان الرملية عبر المستنقع الملحي الجاف إلى الطريق المعبَّـد الرئيسي
الذي يقوده نحو بنغازي.
كان
مخيمهم في «خشم الكبش» غير بعيد من ضريح الولي الصالح «سيدي حمد المقرون»
الذي تجمَّع الناس حوله في مطلع القرن الماضي، متمسحين ببركاته ليحميهم من
عقارب وثعابين أغوار تلك المنطقة، فقامت بلدة المقرون حول مرقده، ثم استأنس
بها صيادو الأسماك بسبب ثراء قيعان الشواطيء هناك بأنواع الأسماك الفخمة
الآخذة في الانقراض: الحمرايا المكتنزة والقراقوز الكفافي، والتريليا
والمرجان. كانوا يعرفون أن شط تلك المنطقة، وأيضاً شط البدين، مكانان
مناسبان لتسافد كلاب البحر في مواسم تكاثرها بسبب قلة تياراتها المائية
ويعرفون أيضاً، أن الطيور المهاجرة تصل إلى تلك الشطآن مُنهكة فينتظرون
وصولها بشباك معدة لذلك. كان الرايس بليقه ينتظر كلاب البحر ويصطادها، وكان
الخشمى ينتظر الطيور ويصطادها أيضاً.
عندما
وصل بشاحنته إلى الطريق الرئيسي عرج يساراً، عندئذٍ كان عليه أن يسرع وإلا
تأخر عن ميعاد وصوله، فتجار السمك بالرصيف يختلقون ألف عذر لبخس أسعار
السمك في الصيف، خصوصاً إن تأخر وصوله. تساءل عما قد يحدث لأسماكه إن تعطلت
الشاحنة التي لم تجهز أساساً لنقل السمك: «ستضيع بالتأكيد». كذلك قال في
سره: «كمية الثلج التي تغمرها لن تصمد في نار جهنم هذه.. نحن الصيادين نخاف
في يوليو على أسماكنا وفي الشتاء نخاف على رؤوسنا. يا لها من حياة مزرية».
ثم تعجب كيف قذفت به الأقدار إلى هذه المهنة المزفرة.
شغله
مصير أسماكه، إلا أنه طمأن نفسه بأن شيئاً من هذا لن يحدث، فحركة السير
متواصلة بهذا الطريق، وبالتأكيد سوف يقف مَن يساعده، أو ينقل له أسماكه.
«هراء» قال بصوت مسموع، فلقد انتبه إلى أن الصيادين هم فقط الذين لا
يتأففون من الأسماك وروائحها، فالصياد لا تزعجه رائحة السمك، فهو لا يميزها
عندما يعانق صيادا مثله. ثم مَن ذا الذي يرضى أن يحمل بسيارته صناديق
مبلولة تخر بالماء من فوق أسماك ميتة؟
تذكر
كيف اختلف الأمر ذلك اليوم؛ شاحنته المستهلكة نتنة الرائحة لم تتعطل، ولكن
تلك السيارة النظيفة الأنيقة مكيفة الهواء هي التي عطلته، لأنه لم يستطع
إلا أن يقف لتلك السيدة التي أشارت إليه، خصوصاً بعدما لمح أطفالاً
بجوارها، أما زوجها فلم يره لأنه كان محشوراً أسفل السيارة من الجهة
الأخرى. كانت سيدة أجنبية، ليست فاتنة ولكنها رشيقة، أنيقة بسروالها الأبيض
وقميصها الوردي الحريري. شعرها الأشقر أقصر من شعر طفليها وأطول قليلاً من
شعر زوجها، الذي نهض بعدما أوقف شاحنته أمام سيارتهما وجاء نحوهما. حياهما
فاستقبلاه بابتسامة مشرقة. قال الزوج: «عربية مكسور، ممكن أنت شوف؟» كذلك
قال بلغة عربية مبعثرة، فأجابه متبسماً بلغة إنجليزية سليمة أنه لا يفهم في
الميكانيكا ولكنه مستعد لتقديم أية مساعدة: «يا إلهي.. »، قال الزوج
مندهشا: «أنت تتحدث لغتي أفضل من زوجتي. أنا اسمي (آرثر) أنا إنجليزي أعمل
مدرساً في شركة الخليج، وزوجتي ألمانية اسمها (إيدي)» ففسر لهما أمره: «أنا
مترجم، هويت صيد السمك فاصطادني، فتركت الترجمة وامتهنته».
(2)
تذكر
كيف ركب الأطفال و(إيدي) بجواره، فيما ركب (آرثر) مع صناديق الأسماك.
فالسيارة تحتاج إلى قطرها والأفضل أن يُسرع بتكليف مَن يفعل ذلك قبل أن
ينقضي النهار. منذ ذلك اليوم الذي كان في ثمانينات القرن الماضي تواصلت
صداقتهما، ظلا يتزاوران ويلتقيان بين حين وآخر. حتى إنه حضر منذ خمس سنوات
حفل تخرج أحد طفليهما في كلية الطب. وحضرت (إيدي) أفراح عدد من بناته.
فصداقتهم كانت حقيقية، بل مثالية.
(3)
وفيما
كان يرنو من نافذته إلى بحيرة يفصلها بساط أخضر باتساع حديقة المستشفى،
يمتد حتى ضفافها، رحل بخياله إلى شط خشم الكبش الفضي، حيث تعود أن يقضي
أياماً صيفية في ضيافة صديقه بليقه رفيق سنوات الصيد عندما كان السمك
يتزاحم على التقاط الطُّعم، وعندما كان المرء يسمع انفجار «جولاطينا» فيتجه
نحو مصدرها، فالعرف أن تغوص مع من فجرها وتلتقط ما تحتاجه من أسماك تسد
بها حاجتك. كانت جلسات الصيف ممتعة وكان يستمتع بغروب الشمس ولذلك يصلي
المغرب على بساط الرمال الناعمة الذهبية، مباشرة بعد «غطسة هذا حقك يا بحر»
أما صلاة العشاء فعند سيدي حمد المقرون الذي حفظ شط البدين ببركاته. ثم
يعود إلى بنغازي. كان الطريق آمناً للغاية، والناس لا يعرفون إلا الود
والسلام. لا جائع ولا محتاج ولا مغبون. جنة عذراء لمَن يخشى الله ويسبِّح
بحمده.
كان
ينتظر إيدي، التي برمجت له علاجه بمستشفى يعمل به ابنها، فهي تريد أن
تأخذه ليطهيا معاً طبق «حرايمي» قبل أن يعود إلى بنغازي بعد يومين. وفيما
كان ينتظرها تكرر إحساسه المزعج؛ فعندما يدفع بيده لتحك إبهام قدمه، تعود
إليه يد خائبة: إذ لم تعد هناك ساق فلقد أطارتها قصفة عشوائية فيما كان
يتأهب لصلاة المغرب. ما كان يخطر له أن غزواً سيأتي إلى سيدي حمد المقرون
من الغرب من مدينة لها عائلات جاءت لتتبارك بسيدي حمد المقرون فبقوا بها
حتى نبت في رمال شواطئه أطفالهم وصاروا يغنون بالعلم مثل أصهارهم وجيرانهم.
الغزو اعتادته هذه الشواطيء أن يأتي من البحر، من أعداء الدين، وليس من
أجدادهم وأخوالهم وأصهارهم.
المقرون،
الوادعة، الآمنة، تروع برصاصكم، ويفقد شبابها وشيوخها أطرافهم بقنابل
أجدادهم وأخوالهم؟ لابد أن أحداً خدعهم أنهم يقودون حرباً مقدسة، لابد أن
أحداً خدع أبرياء وغرر بهم. وماذا يملك مَن دفن قطعة من جسده بعيداً عن
مسقط رأسه سوى أن يلعن مَن تسبب في هذا العار. تباً لكل مَن باع حبة تراب
واحدة من شواطيء المقرون بمال قارون، وسيضل العار يلاحقه ويلاحق ذريته حتى
يوم العرض على مَن يعرف خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فما بالك بمَن يملك
عيناً واحدة خائنة للملة والضمير. تباً لمَن أقلق سكينة قرية وادعة لم
تقدم لليبيا إلا الأمن والأمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق