الاثنين، 22 سبتمبر 2014

الحرب ضد داعش الاعتكاف التركي


  الحرب ضد داعش

 الاعتكاف التركي


محمد قواص

 محمد قواص

صحيفة العرب / لندن


بعض الخبثاء الغربيين رأوا في موقف أنقرة ابتعادا عن حلفها التاريخي الأطلسي، واقترابا من دولة أبي بكر البغدادي الإسلامية.


 محمد قواص


قبل سنوات حمل رجب طيب أردوغان الملف السوري إلى واشنطن. ذهب الرجل يناقش باراك أوباما احتمالات الدعم الأميركي للمسعى التركي بإزاحة نظام بشار الأسد. كانت أنقرة حينها قد اتخذت موقفا عدائياً ضد نظام دمشق ومناصرا للثورة ضده. استمع الرئيس الأميركي باهتمام لنظيره التركي ثم ردّ بلغة رمادية متمسّكة باستقالة بنيوية من التدخل في الشأن السوري. عاد رجلُ تركيا القوي خالي الوفاض، خائبا، محروما من ودّ واشنطن وتضامن بيتها الأبيض.

غداة تلك الزيارة بدأت متاعبُ أردوغان الداخلية بالظهور. صحيح أن مظاهرات ساحة “تقسيم” صدحت بنغم بيتيّ داخلي، بيْدَ أن أردوغان نفسه راح يتهمُ الغرب بالوقوف وراء الشغب في بلاده، ثم راح يغمزُ من قناة واشنطن في سياق معركته مع لوبي فتح الله غولن داخل الدولة التركية، ذلك أن “الشيخ” يناكف أردوغان من منفاه الاختياري في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة.

يروي لي أحد المتابعين لشؤون الائتلاف السوري المعارض، أن وفدا من الائتلاف كان مجتمعا قبل أكثر من عام إلى أحد المسؤولين الأمنيين الكبار في أنقرة، وفاتحه في أمر الجماعات الإسلامية (تحوّل بعضها في ما بعد إلى نصرة وداعش). جاء ردُ المسؤول التركي مفاجئا، فقد لمّحَ أن لا قلق من هذه الناحية، فهم تحت السيطرة. في ذلك فهم الوفد أن تلك التيارات تحظى بنفوذ تركي واسع يجعلها أداة من أدوات السياسة التركية في سوريا (وبعدها في العراق). في ذلك تذهب مصادر إلى الكشف أن أنقرة كانت تقف وراء تغيير وجهة بندقية تلك الكتائب من التصويب نحو نظام الأسد، إلى مقاتلة عناصر حزب العمال الكردستاني في المناطق الكردية السورية، ومقاتلة الجهات التي تعارض الدور التركي لدى المعارضة السورية.

ولا يفصحُ السجال الذي دار سابقا بين نوري المالكي ورجب طيب أردوغان، إلا عن تشخصن حاد في حدّة خلافات بغداد وأنقرة. أردوغان اتهم نظيره العراقي آنذاك، بالطائفية وتنفيذ أجندة شيعية، فيما تولى المالكي الرد على نظيره التركي باتهامات طائفية مضادة وبدعم الإرهاب (السني). وعليه فإن تناقض موقفيْ دمشق وبغداد من جهة، وموقف أنقرة من جهة أخرى، يفسّرُ رعاية تركيا غير المعلنة (حتى الآن) للجهادية السنية التي تعملقت في سوريا والعراق بتسميات مختلفة احتل داعش صدارتها.

وإذا ما تقاطعت مصالحُ إقليمية عدة صبّت مياهها في طاحونة داعش، فإن إطلالة تركيا على الحدود الطويلة لسوريا والعراق، جعلت الدورَ التركي أساسيا ومفصليا وجذريا لا سيما لجهة تمرير العتاد والعديد. وبغض النظر عن أخلاقية الوسائل التي تبررها الغايات حسب الميكيافيلية الشهيرة، فإن داعش بالمحصلة تخصَب النفوذ التركي في البلدين، أو على الأقل تقضّ مضجع خصميْها في بغداد ودمشق.

من حقّ تركيا اليوم أن تتذكر خيبتها مع الحلفاء الأطلسيين حين لم يأبهوا لرأيها في الشأنين العراقي والسوري. ومن حق تركيا أن لا تهرول للتصفيق للغرب الذي استفاق بعد غفوة كبرى. ومن حقّ تركيا أن تُدرجَ موقفها في مسألة الحرب ضد داعش في دائرة المصالح، بحيث تُسائل من يريدها شريكة: ما الذي سأحصل عليه في المقابل؟

يشبه الموقف التركي، إلى حد ما، الموقف العربي. يطالبُ الخليج بصفقة شاملة تعالجُ نفوذ إيران ومعضلة سوريا. تطالبُ مصر بأن لا تقتصر الحرب على داعش العراق وسوريا دون كل الجماعات الشبيهة في المنطقة. الفرق أن العرب آثروا التوقيع على بيان جدة الذي جمعهم مع وزير الخارجية الأميركي (مراقبون يذكرون بأن الصفقة التي يريدها العرب تمت قبل اجتماع جدة)، في حين رفضت تركيا التوقيع، ورفضت الانضمام إلى الحرب ضد داعش، قاصرة جهدها على ما هو “إنساني” صرف.

المفارقة الكبرى أن المقاربة الأميركية الأطلسية لمحاربة داعش تعوزها موافقة الدولة الأطلسية الوحيدة (تركيا) التي تملك حدودا مع البلدين اللذين تنشرُ داعش فيهما نفوذها. حتى أن بعض الخبثاء الغربيين رأوا في موقف أنقرة ابتعادا عن حلفها التاريخي الأطلسي، واقترابا من دولة أبي بكر البغدادي الإسلامية.

في تركيا من يبرر موقف أنقرة المتحفظ عن الالتحاق بالتحالف الدولي، بأنه عائد إلى وقوع 49 مواطنا تركيا في قبضة داعش حين سيطر على القنصلية التركية في الموصل (بعض الأوساط التركية تشتبه في أن وراء ذلك داعشيون مخترقون من أجهزة بريطانية). وحين يحيل محللون آخرون الأمر إلى مزاج رسمي يرفض “الحملة ضد المسلمين السنة في بلدان إسلامية”، يخرجُ من داخل تركيا من يجد أن سر الموقف التركي يكمنُ في رفض ضرب من تعتبرهم أنقرة حلفاء يمثلون سياستها.

تتحدث الصحافة القريبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم عن مؤامرة خلف الحرب ضد داعش تستهدفُ تركيا. تذهبُ مقالات بعض الكتاب القريبين من أردوغان إلى الحديث عن “مظلومية السُنّة منذ غزو العراق”، وعدم وضوح مستقبلهم بعد الحرب ضد داعش (كلام أفصح عنه جهارا رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو).

 وفي حين يشددُ أحد المقالات على التزام تركيا بواجباتها كعضو في حلف الناتو، إلا أنه يستغرب أن “أولويات هذه المنظمة الدولية تعمل دائما ضد مصالحنا”. وحتى يكون الأمر صريحا، يذهب أحد الكتاب إلى الدعوة إلى “أن يحلوا مشكلة داعش بأنفسهم. فقبل داعش كانت هناك المشكلة السورية، لم يفعلوا شيئا ولم يفوا بأي وعود”.

لا تنظرُ أنقرة بعين الرضا إلى الاستراتيجية الأميركية المعلن عنها حتى الآن. أما وأن القرار الغربي متمسكٌ بعدم إرسال قوات برية، فإن أمرَ القضاء على داعش منوط بالقوى المحلية. هذا تماما ما حصل حين ساهمت الضربات الجوية الأميركية في تحرير سد الموصل، ثم مدينة أمرلي. استطاعت الميليشيات الكردية (العراقية والسورية والتركية) والميليشيات الشيعية (المتحالفة مع الجيش العراقي) تحقيق الغلبة الميدانية، على الرغم من تصريح أوباما الشهير أن سلاح الجو الأميركي لن يكون غطاء لتلك الميليشيات. 

لا تنظرُ أنقرة بعين الرضا إلى جُرع القوة التي ستستفيدُ منها هذه الميليشيات جراء تدخل الأطلسي، على حساب السُنّة وقواهم، ناهيك عن احتمال استفادة نظام الأسد (وإمكانية إعادة تعويمه رغم التصريحات الغربية التي تنفي ذلك) من الضربات ضد داعش سوريا.

في تركيا من يرى أن الغرب لا يريدُ من تركيا الانضمام للتحالف لرفد هجماته الجوية، ذلك أن الغارات الأميركية على قدم وساق ولا تحتاج إلى القاعدة الجوية في تركيا. ترى بعض الأوساط التركية أن الأطلسي يريد تدخلا بريا تركيا، وحده القادر على إحداث تطور نوعي ميداني ضد داعش، وترى في ذلك فخا يُنصب لتركيا دون أي ضمان لحصاد تجنيه، فيما الغرب سيجني نتائج الصدام وفق مصالحه وسيناريوهاته وخرائطه.

المخاوفُ التركية ليست تسريبات صحفية فقط. أردوغان نفسه أبلغ أوباما (على ما نشرت الصحافة التركية) في لقائهما الأخير على هامش أعمال الأمم المتحدة في نيويورك، محاذير التحفظ التركي: تريدُ أنقرة ضمان سلامة الرهائن الأتراك، ولا تريد اختلالا في التوازنات الإقليمية، وبالتالي تتحفظُ على مسألة تسليح الحكومة العراقية، ومآلات ذلك على التوازن المذهبي على حساب السُنّة، وتركيا تعتبرُ أن تدفقَ الأسلحة باتجاه المنطقة يهددُ السلم الداخلي التركي، لا سيما عملية التسوية الجارية مع أكراد تركيا، ثم أخيراً لا تريد أنقرة أن تحملَ العملية الأطلسية ماء إلى طاحونة نظام الأسد في سوريا.

لم توافقْ تركيا على استخدام أراضيها لضرب أو غزو العراق عام 2003، وبإمكانها الاستناد على هذه السابقة لرفض الأمر هذه الأيام. 

على أن التحفظات التركية المتعلّقة بحساباتها الاستراتيجية في المنطقة، تنعطفُ في الوقت الراهن على حسابات داخلية تأخذها أنقرة بعين الاعتبار، ذلك أن المشاركة في هكذا تحالف، سيشعل التيارات والعناصر الدينية المتطرفة في تركيا، ضد الحكومة التركية (الإسلامية)، ناهيك عن تململ العلويين الأتراك من احتمالات تورط أنقرة في ما قد يُعتبر معاديا للحكم في دمشق.

لكن سريالية عجيبة تظهرُ على هامش الحملة الدولية ضد داعش، ذلك أن تركيا وإيران اللتين تتناقض مصالحهما في العراق وفي سوريا، تجتمعان في معسكر المعارضين للحملة الدولية العتيدة.

 صحيح أن مسببات ذلك تختلف بين البلدين (خصوصا أن إيران استبعدت أصلا عن التحالف)، بيْد أن في تأمل الواقعة ما يؤشّر إلى نهايات قد يكون عدم المشاركين بالحملة أساسا في خطّها.


صحافي وكاتب سياسي لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق