قراءة فى ملف وكيل وزارة
مالية بالعهد الملكى
بقلم المهندس / فتح الله سرقيوه
المرحوم/ عبدالرازق شقلوف
من حي المغار بمدينة درنه كانت
البداية .. شاب لم يتجاوز الرابعة عشر ولد فقيراً كغيره من أطفال الحي الذي
كان يعتمد سكانه على الزراعة والرعي يسكن بعضهم في كهوف تحت سفح الجبل ومن
لديه القدرة يبنى حجرة من الطين سقفها من الجريد والقش ومحاطة بالزنك، هذا
الحي يعتمد سكانه على الزراعة بمنطقة الظهر الحمر حيث كانت الزراعة موسمية
يخرج الجميع من الحي يصعدون منطقة جبلية بأطفالهم ونسائهم وشبابهم بمعدات
بدائية لكي يحرثوا الأرض مباشرة بعد نزول الغيث تربط بينهم علاقة الدم
والفزعة والنخوة التي ربوا عليها، حيث كان ذلك الصبي النشط والمحتشم يدعى
(عبدالرازق شقلوف) نظيف البشرة متوسط القامة يحاول جاهداً أن يكون هندامه
مختلفاً حتى يتميز ويكون له حضور مختلف بالرغم من حالة أسرته الفقيرة التي
كغيرها من العائلات والأسر المعوزة في ذلك الحي المترابط والمتماسك. لقد
كان محبوباً من رفاقه وأصدقائه فالصداقة والرفقة في ذلك الزمن لم تكن
كأيامنا هذه .. لقد كانت المودة تسود بين الأصدقاء حيث جمع بينهم هموم
الوطن ومعاناة الأهل وطغيان المستعمر الذي ينكل بأبناء ليبيا في كل مكان.
لقد كان المرحوم عبدالرازق شقلوف
في فترة من الزمن مطارداً ومطلوباً لنضاله وكفاحه ورفضه للظلم، لم يتخلى
عنه أصدقائه (رفاقه المخلصين) ومنهم المرحوم عبدالحميد الشيخ والمرحوم
عبدالمنعم قدور والمرحوم سالم سرقيوه لقد كانوا من حوله يوفرون له ما
يحتاجه حتى أنه كان ينام في زاوية الولي الصالح (سيدي المرغنى) بحي المغار
عندما اشتدت عليه قسوة الظروف الصعبة، هكذا هم الرجال الذين لم ينتظروا
ثناءً ولا مناصباً ولا جاهاً بينما هناك آخرون نسوا وتنكروا لمعرفتهم لهذا
الرجل بمجرد أن غادر الوظيفة وقد كانوا من المقربين في قضاء مصالحهم.
لقد كان هذا الرجل من دعاة لم
الشمل والتحريض على نسيان الماضي بعد عودة الأهل والأحباب من المعتقلات فقد
كان الحزن يخيم على كل شيء نتيجة على من فقدوا وراء الأسلاك الشائكة مرضاً
وجوعاً وفقراً وحسرة، لقد كانت القلوب تعتصر ألماً من ظلم المستعمر وذرف
الدموع من قسوة ابن الوطن أحياناً ممن تطلينوا ورفعوا الصليب ودخلوا
الكنائس ونسوا ألله فأنساهم أنفسهم فقد كانوا أكثر قساوة وشراسة على أبناء
جلدتهم، ولكن عبدالرازق شقلوف كان أكثر دعوة للم الشمل بعد عودة أهلنا
وأحبابنا من المعتقلات فقد كان يحرض على طي الملف الأسود وتناسى الأحقاد
والكراهية وضرورة استهجان فكرة الانتقام، وما إطلاق تلك العبارة الشهيرة
(حتحات على ما فات) التي أطلقها أحد المشائخ في اجتماع القبائل والعائلات
الليبية بعد عودة من بقى على قيد الحياة من معتقلات الإبادة حيث انطلقت هذه
العبارة من حي المغار ومن بيت عريق وما هي إلا دليلاً على أن هناك دعوة
صادقة من قلوب نظيفة وخالية من الأحقاد وذلك لفتح صفحة جديدة من أجل ليبيا.
لقد عاش المرحوم عبدالرازق شقلوف
وطنياً شريفاً نظيف اليد وفياً لم ينسى أصدقائه ورفاقه الذين مدوا له يد
المساعدة في طفولته وشبابه. لقد كان مثقفاً ومؤرخاً يحب القراءة والشعر
وخصوصاً الشعر الشعبي الذي يحب سماعه ويحفظ منه الكثير.
حدثني أحد أبناء أصدقائه
الأوفياء الحقيقيين وهو الأستاذ عبدالسلام الشيخ ابن المرحوم عبدالحميد
ميلاد الشيخ أحد أعيان حي المغار وقد كان تاجراً بسوق النور (الظلام) كما
كان يسمى في الفترة الماضية، أن المرحوم عبدالرازاق شقلوف تأثر كثيراً وحزن
حزناً كبيراً من الذين كان يظن أنهم أصدقاء له من عرفهم وقت الرخاء، قال
لي بعد انتهاء عمل المرحوم عبدالرازق شقلوف بعد قيام الثورة حيث استقرت
الأمور بالنسبة له ورجع إلى درنه لكي يسأل عن أصدقائه المزيفين فقالوا له
أنهم ذهبوا إلى شاطئ البحر بمقابلة موقع شركة الجبل الحالي حيث كان يوجد
مصيف به بعض الحجرات، لقد كان استقبالهم كغير عادته وترحيبهم لا يرقى إلى
ترحيبهم فيما مضى فشعر المرحوم عبدالرازق شقلوف ذلك وهو رجل يتميز برجاحة
العقل ولكنه فضل البقاء، لقد كان رحمه ألله يحب البحر والجلوس في الشمس
فخلع قميصه ووضعه في الحجرة واستلقى على الرمل حيث أخذته غفوة بسيطة لمدة
ساعة أو يزيد فعندما أستيقظ وجد الحجرة مقفولة وقميصه بجانبه ولم يجد أحد
من أصحابه، يقول الأستاذ عبدالسلام الشيخ حسب رواية والده المرحوم
عبدالحميد الشيح أن ذلك الموقف كان مثل الصاعقة على المرحوم عبدالرازق
شقلوف، فعندما ذكر هذه الحادثة لأحد الشعراء قال له ….
(إن صاحبت صاحب رفيقاً ** زين تلقاه في الرخاء والشدة)
( والذيلى لا ينحسب صاحب لا ** خير فيه ولا أتجيك إموده)
وهنا تذكرت قول شاعر الهجاء
اللاذع المرحوم حسن الفاخرى (لقطع) في قصيدته الشهيرة مفطوم عالعصر عندما
كان يهجو الذيليه ويشيد (بالأجواد) وقد اخترت منها ..
لجواد ..
(لو متت ما نرضى أوصاف زهيده * لجواد خيبونى كل نوع أنريده)
(بحساب يوم رفقتهم سنين عديدة * ورفقة الذيليه نهار إتشيب)
لقد سمعت الكثير من المرحوم
والدي عن ذلك الشخصية المتميزة كان يقول لي أن عبدالرازق شقلوف كان رجلاً
عصامياً وطنياً بفطرته التي تربى عليها في حي المغار الذي كان يعتبر السند
والدعم اللوجستى لحركة الجهاد (عصران بطبيعته) لم يطلب مساعدة إلا من رفاقه
الذين يثق فيهم غير أنه بعد أن أصبح من رجال الحكومة ألتف حوله مجموعة من
بطانة المصالح وهم الذين لم يعرف حقيقتهم إلا بعد قيام الثورة حيث أنفضوا
من حوله (وهذه هي سنة الحياة). لقد قلت في نفسي هؤلاء هم رفاق السوء لا خير
منهم يرتجى ولا ظهر يسند بهم. وفعلاً تأكدت أن المرحوم عبدالرازق شقلوف
جاء لأحد رفاقه ممن تعرف عليهم خلال فترة وجوده في الحكومة ليسلم عليه
فعندما طرق الباب وسأل عنه، خرج عليه قائلاً (عليك سريب يا عبدالرزق صحبه
وعدت في حالها) فرد عليه سامحني يا بو صاحب أغلطت في الحوش.
رحمك ألله يا (سى عبدالرازق) ..
لقد جاءني في أحد الأيام وقد كنت أعلم بظروفه المالية يحمل في يده كيس رفض
الدخول وقال لي بالحرف الواحد (بوبناخى) لدى هذا – الكاط ملف – لم يعد لدى
القدرة على لباسه فهو ثقيل على كتفي أريدك أن تتصرف فيه، قلت له سى
عبدالرازق أحتفظ به فلا شك أنه يحمل لديك ذكريات فقال عندي من الذكريات
الكثير فهو عصامي (عصران) نفسه عزيزة فعرفت ما يقصد وتوقفت على الكلام في
الموضوع وقلت له الغداء جاهز فرد على تبقى على خير وسلمني الكيس في يدي.
حيث تأكدت أنه كان في ضائقة فهو من الرجال الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف لا يسألون الناس .. لقد تم ربط معاشه الضماني بمائة وعشرة دنانير
عاش بها حتى أنتقل إلى رحمة ألله.
هذا الرجل شغل وكيل وزارة مالية سابق
قبل قيام الثورة شهد له الجميع بنزاهته ونظافة يده عاش صبياً مكافحاً
وشاباً وطنياً لا يقبل الضيم كان يود الانخراط في دور عمر المختار واجتهد
حتى قابله شخصياً وطلب منه الالتحاق بأدوار الجهاد فقال له شيخ الشهداء
أنت لا زلت صغيراً ولكنك متعلماً ونحن نحتاجك في مكان آخر، إن من يقوم
بهكذا عمل لا يمكن إلا أن يكون مناضلاً متميزاً ووطنياً في مقدمة الوطنيين.
كان له دور في جمعية عمر المختار مع رفاقه الحقيقيين وليس المزيفين الذين
تحدثت عنهم من بطانة السوء فهم نكرة لا يستحقون أن يذكروا في مواقع الشرف
والبطولة .. سى عبدالرازق وقف ضد دعاة الانفصالية الذين كانوا يختبئون وراء
الشرفاء لكي يحققوا ما في نفوسهم.
عبد الرازق شقلوف لم يخون ولم
يتآمر ولم يعرف عنه أنه ظلم أحد ولا استولى على أموال عامة لم يغش ولم يزور
ولم يملك الجوازات الدبلوماسية ولا المزارع ولا العقارات ولا السيارات
الفارهة ولا الحسابات في سويسرا ليس لديه عمارات في دول الجوار ولا
استثمارات باسمه وجدت بعد رحيله من هذه الدنيا عاش بشرف ومات بشرف ولا حياة
إلا للشرفاء. هذا الرجل لم يترك ليبيا لأنه ينتمي لترابها وحب وطنه فوق كل
اعتبار، لم يهرب ويقف في أي صف كان ضد الوطن ولهذا قدرت فيه الثورة هذا
الموقف النبيل والمشرف والوطني، وأيضاً لم تتعرض له أية جهة في ليبيا بعد
خروجه من السجن ومحاكمته … ربما هناك من لديه رأى آخر ولكنني أقولها كلمة
حق لقد خرج سي عبدالرازق من الدنيا نظيفاً عفيفاً لم تمتد يده على المال
العام وهو وزيراً للمالية شغل ذلك المنصب بجهاده وكفاحه وتاريخه المشرف
وذوده عن الوطن بالعمل والكلمة، هكذا هم الرجال الشرفاء أما اللصوص والسراق
الذين نهبوا في السابق وينهبون رزق الشعب الليبي في الحاضر ستلعنهم
الأجيال القادمة وستكون ذكراهم نتنة وعفنة في مزبلة التاريخ.
أرجو من كل قارئ لهذا الموضوع
(قراءة الفاتحة على روحه الطاهرة وعلى أرواح شهدائنا الذين جاهدوا وناضلوا
من أجل ليبيا على مدى التاريخ بالدعم المادي والكلمة الصادقة والدم).
بسم الله الرحمن الرحيم
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
صدق الله العظيم – {الأحزاب: 23}
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق