الأحد، 14 سبتمبر 2014

أزمة ليبيا ومأساة الخطاب الديني


أزمة ليبيا

ومأساة الخطاب الديني



الحسين المسورى

بقلم / الحسين المسوري


لم يعترض مسيرة بناء الدولة في ليبيا عقب ثورة 17 فبراير، أي عائق أخطر من المليشيات المسلحة والفساد المالي والاداري والخطاب الديني المتشدد أوالمنغلق الذي وزع سلطاته وفق معايير سياسية فرضت على أنها أوامر دينية من قبل شيوخ الدين وانعكس ذلك سلباً على الخطاب الديني بوجود حالة من التسلط عبر الخطاب الديني ليتحول إلى سلوك يمارس من قبل شخصيات دينية استغلتها أحزاب وتنظيمات سياسية و ذلك عبر مؤسسات دينية لأجل تمرير و تحقيق مكاسب سياسية ومصالح شخصية كانت جلية في الحالة الليبية  الراهنة،حيث وظفت من خلالها هذه الشخوص مؤسسة دينية كدار الافتاء الليبية التي هي في الاصل لكل الليبيين باستخدام خطاب ديني يخدم مصالح حزبية معينة.

إن الخطاب الديني الحالي الذي يسود ليبيا في غالبه هو خطاب إقصائي لا يمكن له أن يتعايش مع الآخر المخالف لتياره وجماعاته  وإن حاول البعض إظهار شيء من القبول والاقتناع بالتعايش مع الآخر، إلا أن ثمة إشكالية حيث تنتهي هذه المحاولات ويتم كتم هذه الأصوات أو تتغير بسبب طموحهم السياسي والتعصب الديني وفي سبيل ذلك تقوم بتمزيق كل الروابط الاجتماعية والدينية والإنسانية التي تربط بين أبناء ليبيا من مختلف المناطق والمكونات وهذه الإشكالية بدت متمثلة بالخطاب الديني المتشدد الصادر في أغلبه من مؤسسة رسمية كدار الافتاء وبيانات وخطابات شيوخ وأئمة وأمراء التنظيمات الإسلامية الأخرى والتي ترى في نفسها أحقية القيادة سياسيا ودينيا وفق منظورها الخاص أو بما يناسب أفكارها ومصالحها، وهذا بدوره أثر على بناء الدولة واستقرارها ووحدة المجتمع الليبي والسلم الاجتماعي والوضع الأمني بشكل عام.

وفي ليبيا أصبحنا نعاني من  وجود أزمة حقيقية يعيشها الخطاب الديني السائد، وهو ما يعني وجود أزمة في الوعي الديني لدى الشباب وهم أخطر فئة يستهدفها الخطاب الديني الحالي حيث يجر هذا الخطاب  الشباب الليبي الى الحرب بدل أن يحثهم على ترك المليشيات والذهاب الى الجامعات وبالتالي يرسلهم الى الموت في معارك السلطة  متكئين على فتاوي الشيوخ التي حجزت لهم مكانا في الجنة رغم أنهم يقاتلون إخوة لهم ومسلمين مثلهم انها الفتاوي المسيسة المسمومة المليئة بالفتنة والحقد والكراهية والتحريض على القتل التي أصبحت من أساسيات هذا الخطاب المدمر الذي يفرق ولا يجمع يهدم ولايبني.

ومع عدم وجود خطاب ديني وسطي يقوم بترسيخ قيم الاسلام السمحاء وإسقاطها على الواقع الليبي ليفتح الطريق أمام العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية ويحقن دماء الليبيين، نجد أن الخطاب الديني المأزوم يتصدر المنابر الدينية والسياسية والإعلامية، و يلعب دوراً سلبيا تسبب في خـلـق أزمـة معقَّدة  عندما أخذ الصراع السياسي الطبيعي بين الفرقاء من ساحته السياسية الطبيعية حيث تتنافس الاحزاب بالبرامج والمشاريع والرؤى عبر الانتخابات ونقله إلى ساحـة الديـن حيث مسلمين ومرتدين ومجاهدين وطواغيت، فحصل نوع من التشويش الايديولوجي لجزء كبير من المجتمع الذي بدأ يأخذ خطوة للوراء من المؤسسات الدينية وفي مقدمتها دار الافتاء و أصبح ينظر لها بعين الريبة والشك وكمصدر للفتنة والتفرقة بين الليبيين وسبب رئيسي في الأزمة السياسية  وأصبح  العلماء المسيسون أصحاب المصالح والكراسي يغلبون مصلحة أحزابهم وجماعاتهم ويستخدمون نصوص القرآن والحديث لخدمة أجنداتهم ولمناصرة طرف ضد طرف ودعم حزبهم ومحاربة الأحزاب الخصوم لهم و يؤججون الصراع  وفي الوقت الذي تشتد فيه الصراعات السياسية والجهوية على السلطة، فإن الخطاب الديني المتشدد العالي الصوت في ليبيا يؤكد الصورة السلبية عن المؤسسات الدينية كدار الافتاء وساهم مع الأسف الشديد في إثارة الصراع وتأجيجه، ثم لا يكتفي بذلك، بل يُعلن النفير على كل المحاولات المخلصة الرامية إلى تصحيح الخطاب الديني وتخوينها وتكفيرها.

وأول مظاهر الاختلال والاعتلال في الخطاب الديني السائد فقدانه التوازن، فهو في غالبه خطاب متعصب عاطفي منحاز، يقوم على تحريك العواطف، وتجييش المشاعر، ولا مكان فيه لصوت العقل أو مصلحة الشعب الليبي ويكاد يختزل الإسلام في جماعاتهم وأحزابهم وتيارهم فقط، وكأن الإسلام لم يأتِ الا ليمنح سلطة الحكم الا لأشخاصهم، مظهر آخر من مظاهر أزمة الخطاب الديني يتمثل في غياب فقه المقاصد، فالخطاب الديني ما زال منشغلًا بالجزئيات والفرعيات عن المقاصد، ومن السهل عليه أن يضحي بالمقاصد الشرعية المعتبرة لمصلحة عموم الشعب الليبي من أجل قضية جزئية، أو مسألة فرعية اجتهادية وغياب لغة الحوار وعدم حضور فقه الاختلاف إشكالية أخرى يعاني منها الخطاب الديني التقليدي في ليبيا، وتتجلى أزمته في عجزه عن فهم سنة الله في الاختلاف والتنوّع الفكري والديني والثقافي، ولذلك فهو بدلًا من أن يستحضر حكمة الله في ذلك الاختلاف والتنوّع نراه يضيق ذرعًا بالاختلاف والتنوع وإن كان في مسائل اجتهادية ظنية، ويشحن الجمهور بثقافة الحقد والعِداء والكراهية لكل مختلف، آفة أخرى يعاني منها الخطاب الديني في ليبيا وهي اعتقاد بعض رموزه أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويملكون مفاتيح الجنة والنار وبالتالي تخندقهم وانحيازهم لفريق سياسي حتى أصبحوا جزءاً منه وطرفا في الصراع السياسي بل رأس حربة وفي سبيل ذلك قسموا الشعب الليبي إلى مسلمين ومرتدين واجترار الصراعات السياسية، وإثارة الأحقاد التاريخية.

وبناء على ماسبق ذكره أعتقد أن خطورة الخطاب الديني في الوقت الراهن يقع ضمن التحريض المستمر على العنف عبر مصطلحات التي تبيح دم الأخر لمجرد إختلافه معه سياسياً أو فكرياً، وهذا كله جاء كنتاج لحالة الغليان التي وصل اليها الصراع على السلطة وهذا يجعل من عملية انتقاد الخطاب الديني الحالي ضرورة مهمة لإعادة الوحدة الى المجتمع الليبي والسلم الى البلاد  وهذا يقودنا الى  تحديث الخطاب الديني في ظل المتغيرات الحالية  الخطيرة، الأمر الذي يعني أن عملية انتاج خطاب ديني جديد تبدأ من تطهير كتب الفقه والتراث الإسلامي من تأثيرات الوضع السياسي والاجتماعي خلال العصور التي مر بها ومارست طقوس التحريف فيه منذ دولة بنو أمية والى يومنا هذا حتى وصل إلينا مشوهاً بطريقة مؤسفة لا يبررها إلا استخدامه لتثبيت سلطة هذا السلطان أو تلك الأسرة الحاكمة.

إننا اليوم بحاجة ماسة إلى تجاوز الخطاب الإنشائي بخطاب علمي يُنمّي فينا التفكير، ويدعونا إلى التدبر وتحليل الظواهر، واكتشاف الأسباب، ويرسخ أدب الحوار والتخاطب، وفن الجدال بالتي هي أحسن، ويغرس فينا التسامح والتواضع والاعتراف بالآخر واحترام الآخر كإنسان كرمه الله وتقدير إنجازات الأمم الأخرى بدل تسفيهها كذلك نحن بحاجة ماسة إلى تجديد البعد العقلي في الخطاب الديني، وإلى إقامة التوازن الدقيق بين العقل والعاطفة، حتى يمكن  ولادة ذهنيات جديدة لا تمارس عملية الإقصاء ولا تنجر بسهولة الى التكفير واستخدام السلاح بل تنبذ العنف وتمد يدها للاخر وتحاوره وتستمع إليه وتستفيد منه فالحكمة ضالة المؤمن  وهذا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم  في دعوته وما تشدد أغلب شباب التيارات الإسلامية  ورفضهم للأخر إن هو إلا نتيجة طبيعية لهذا الخطاب الاقصائي، الذي وضعنا في تجربة حقيقية من قبل هؤلاء كونهم ينظرون بعين الريبة والشك لليبيين على أساس أن الليبيين المخالفين لهم هم مرتدون وكفار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق