الأحد، 15 فبراير 2015

من هنا تبدأ المعضلة :: فاطمة الشيدي


من هنا تبدأ المعضلة

فاطمة الشيدي


كنت أفكر، كمؤمنة بحرية الإنسان ـ لا تحب الأدوار الشرطية، والرقابة الصارمة، والقيد الذي لا يفضي إلا لقمع الوعي، ومحاربة التفكير الحر ـ بعدم جدوى الامتحانات، وضرورة التوصل لطريقة أكثر تحضرا وإنسانية وحرية في تقييم التعليم العام منه، والجامعي، كبديل لهذه الطريقة القاسية نفسيا ومعرفيا في التقييم، والتي عفى عليها الزمن. ولكنني في الوقت نفسه كنت أشعر بحيرة أمام البدائل التي قد لا تكون عادلة بما يكفي، سيما ونحن في عالم نقيس فيه التفكير بالمسطرة، والمعرفة بالكم، ومع طلاب تلقوا تربية معرفية قُمعية، قائمة على صب المعلومات في رؤوسهم، ثم إفراغها في صفحة الامتحان، ونسيانها بعد خمس دقائق من الخروج من القاعة، بعيدا عن إدراك قيمة العلم للإنسان والتغيير والحضارة، وأهمية الثقافة في تشكيل الوعي ومحاورة الإنسان والوجود.

ولكن هذا التفكير الحر استحال لصورة خيالية أو يوتوبيا بعيدة جدا، وأنا أراقب على طلاب المرحلة الجامعية، وأغلبيتهم يتربص الفرص كلص محترف ليسطو على إجابة ما من ورقة زميله أو من فمه، وبالتالي كان علي أن أكشر عن أنيابي، وأتحول إلى شرطية صارمة جدا في التعامل مع هذا الوضع، تهدد بالويل والثبور وسحب الورق، ووضع أدنى العلامات لكل من تسول نفسه إتيان هذا العمل الشنيع من وجهة نظري، لأن إيماني بالحرية لا يقل عن كفري المتجذّر بالغش والكذب والنفاق.

وكنت أنظر لكل محاولة غش، ولكل جسد متململ، وعين متربصة، بقرف وسخط، مستحضرة كل مسؤول فاسد، وكل تاجر لص، وكل سارق، ومرتشٍ، ومرابٍ، ومستغل وحقير في أوطاننا يعيث فسادا في البلاد، ويسلب أرزاق العباد، وأدرك جيدا أن المشكلة تبدأ من هنا تماما. وأن من يبدأ بالغش ينتهي بالغش، فماذا يمكن أن يصبح الطالب الذي أخذ شهادته بالغش، موظفا وإنسانا؟ وماذا يمكن أن يقدم لاحقا لوطنه، ولشعبه بل ولأسرته وبيته؟ وأي مبدأ أو قيمة ستحكمه موظفا؟ ومم سيخاف قبل أن يقترف أي جريمة سرقة أو رشوة؟ وكيف سيربي أبناءه؟ وكيف سيتعامل مع زوجته وأسرته ومجتمعه، وهو سارق كبير منذ البدء حتى الخاتمة؟ مستحضرة كل القضايا التي تطالعنا بها الصحف المحلية والعربية ووسائل الإعلام يوميا عن السرقة والاغتصاب وتهريب الأموال، وكل القبح والشر الذي يتحرك في مجتمعاتنا بنشاط، ويتكاثر بحيوية وقوة، مدركة أن الشر بدأ مبكرا جدا، ومن قاعات الدرس تحديدا، ولم يجد مقاومة، ولا تصدى أحد لتفتيت حزم الوهم الراكدة في عقول طلابنا للنجاح بأي وسيلة، والتحصل على شهادات عالية بكل الطرق الممكنة حتى لو كانت بالغش والسرقة من مجهودات الآخرين وتعبهم، أو من الكتب و»البراشيم» التي أصبح طلابنا يستحقون شهادات عالية فعلا في كيفية صناعتها وتجويدها في الحجم والكم والكيف. ولا في عقول آبائهم الذين سيوقعون بهم أدنى العقوبة لرسوبهم، ولكنهم لن يحركوا ساكنا لو عرفوا أن نجاحهم كان بسبب الغش، وتفوقهم كان سرقة وليس مستحقا، بل ربما باركوا لهم تلك الشجاعة في الأخذ، وهنأوهم على تلك القوة في السلب وخداع المراقب، وبالتالي يصبح للتفوق المسروق قيمة إضافية، فهو بسالة ورجولة تستحق التقدير والتشجيع.

ورغم كل المقاومة الباسلة التي تقوم بها مؤسسات التعليم العام والجامعي للحد من الغش، إلا أن الحالات التي تسجلها هذه المؤسسات لا تعد ولا تحصى، وكل السبل لا تجدي أمام التحين والتربص الطلابي، وعقد العزم على سرقة معلومة مهما صغرت أو كبرت للنجاة من براثن الامتحان، والخروج من هول هذه المحنة، بلا استعداد ولا تجهيز.

بل أن الأمر في جزء منه أصبح طبيعيا جدا، حيث أصبح الغش مقننا، وتحت أقنعة شتى، وصار العلم يباع ويُشترى في محلات ومكتبات، ومراكز بحوث عالية الجودة، ومرخصة من قبل الدولة والقانون، تقدم خدماتها البحثية بقيمة مبسطة لجميع الطلاب لتساعدهم على الغش والسرقة، ليتحصلوا على أعلى التقديرات بأقل الجهد وأسرع الوقت، بل ويتحصل البعض من خلالها على أعلى الشهادات والدرجات العلمية.

والسؤال الذي يهمنا، لماذا وصلنا إلى هنا؟ ولماذا لا يدرك الطالب حرمة ما يفعل وقبح نتائجه، وأثرها عليه كفرد ومجتمع؟ هل هي التربية الأسرية التي لا تعاقب على الكذب والغش منذ البدء، بل قد تبيحه وتسوغه بمبررات كثيرة أهمها النجاح وامتلاك شهادة للتحصل على وظيفة لكسب المال؟ أم هي المناهج التربوية التي لا تركز على فداحة فعل الغش في الحياة قولا وفعلا، أمام الله وأمام الناس؟ أم هي القراءة الخارجية للدين التي لم تركز على محاربة الغش كأعلى درجة من درجات الكفر والتي تخرج صاحبها من الدين تماما «من غشنا ليس منا»؟.

أم هي التربية المجتمعية التي أحكمت الرقابة الخارجية، وأشهرت في وجوه أبنائها ألف رقيب، وأباحت لهم كل فعل خارجها، ولم تفكر يوما في خلق رقيب داخلي، لتوصلهم لهذه المرحلة المتأزمة بهذه الأخلاقيات والسلوكيات المرضية، بعيدا عن أي مبدأ، أو إيمان، أو وعي أو مسؤولية؟

....التربية المجتمعية التي جعلت الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي فالطالب والباحث يطمح لغاية عالية، فلن ينظر لقبح الوسيلة، ولن يعتقد بحرمة الغش كوسيلة للنجاح، وبالتالي فالتاجر السارق، والمسؤول الفاسد، لا يدرك أيضا حرمة ما يفعل، وقد يعتقد أن ما يأخذه استحقاق، ولن يحاسب عليه، فالقوانين العربية طيعة فيما يخص أهل المال والمناصب، وأما البشر فالقانون لا يحمي المغفلين، كما تقول الحكمة العربية المعروفة.

كانت كل تلك الأسئلة والهواجس تشتعل في داخلي، وأنا أتمشى في قاعة الامتحان، وأستحضر العنتريات العربية واللحى الطويلة من جهة، والموت والفقر والظلم من جهة أخرى، وأتذكر رغبتي الأولى في غياب الامتحانات، وأقول مازلنا بعيدين جدا عن الحرية التي هي شرط الإنسانية الحقة.

كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
(القدس العربى)

هناك تعليقان (2):