مرة أخرى: ما حدث في مصر.. وأزمة الديمقراطية
مرة أخرى:
ما حدث في مصر.. وأزمة الديمقراطية
بقلم / د. يونس فنوش
كتبت بعيد صدور بيان
الجيش المصري، الذي أعطى مهلة 48 ساعة للرئيس مرسي وللأطراف الرئيسة في
الحركة السياسية لإيجاد حل، واصفاً هذا البيان بأنه خطر، وأنه تهديد
للعملية الديمقراطية التي أتت بالرئيس مرسي إلى منصب الرئاسة، وحذّرت من أن
القبول بأي شكل من أشكال التدخل في المسار السياسي من قبل القوات المسلحة
هو طعن للخيار الديمقراطي في صميم معناه ومضمونه.
وها أنا ذا أجد نفسي
مدفوعا دفعاً للكتابة مرة أخرى في الموضوع نفسه، ولكن هذه المرة في ضوء ما
أخَذَت تشهده الساحة في مصر من أحداث تنذر بشر كبير، وعاقبة وخيمة. ولقد
عبرت عن وجهة نظري في الأمر بكل صراحة ووضوح، وأجد أني ما زلت بحاجة إلى
تكرار ذلك التعبير، في ضوء ما شهدْتُه وأشهده من أصوات تبارك ما حدث، بل
وتقدم التهنئة للشعب المصري ولجيشه (العظيم). وقد قلت معلقا على كلام أحد
هؤلاء إني لا أجد في نفسي شيئا من الشعور بأن ما حدث في مصر يستحق عليه
المصريون التهنئة، بل أجدهم يستحقون التعبير عن الشفقة والتعاطف، ويستحقون
قبل كل ذلك الدعاء إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يخفف من سوء العاقبة، وأن
يعجل بإيجاد المخرج من هذا المأزق الذي تورطوا فيه جميعا: مؤيدون للرئيس
المنتخب ومعارضون.
ولقد وجدت أن ما حدث
حتى قبل أن يتم الفريق السيسي تلاوة بيانه، من انطلاق حملة اعتقالات،
استهدفت رموز وقيادات حزب العدالة والبناء وحركة الإخوان المسلمين،
واستهدفت إغلاق قنوات فضائية وإعلامية محسوبة على التيار الإسلامي، وجدت في
هذا مؤشراً بالغ الخطورة على أن الأمر كان مدبراً مسبقاً، وأن أوامر
الاعتقال وقوائم المنع من السفر وما إلى ذلك من إجراءات قمعية كانت معدة
ومجهزة، وتنتظر فقط ساعة الصفر للشروع فورا في التنفيذ.
ولقد قلت بكل وضوح إني
أختلف تماماً مع كل من أيد ويؤيد هذا المنعرج الخطر في مسيرة الديمقراطية،
لأني أومن بأن الديمقراطية خيار جوهري ومبدئي، نقبله معياراً وأساساً
للتعايش السلمي بين أطياف المجتمع الواحد ومكوناته الفكرية والسياسية،
ونقبل القاعدة المركزية التي يقوم عليها هذا الخيار وهي قاعدة الاحتكام إلى
إرادة الشعب لتحديد الكفة أو التوجه أو الخيار السياسي الذي تميل إليه
غالبية المواطنين، ومن ثم الاعتراف بحق من يحوز هذه الأغلبية في تولي سلطة
رئاسة الدولة أو الأغلبية في المؤسسة التشريعية، وتولي السلطة التنفيذية
وفقا لذلك، مع ضمان حق الأقلية التي لم تفز في الجولة الانتخابية السابقة
في الوجود السياسي والعملي، والمشاركة في الشأن العام من خلال المعارضة
السياسية، وحقها في التمتع بالحماية التي يكفلها الدستور لحقوق كل
المواطنين وحرياتهم، دون تمييز أو إقصاء.
وقلت أيضاً إني أرى أن
المعارضة في مصر، وأعني كل أولئك الذين اصطفوا في الخندق المقابل لحزب
العدالة والحرية وجماعة الإخوان المسلمين، قد ارتكبت خطأ تكتيكياً وسياسياً
فادحا في إدارتها لحركتها في مواجهة الاستحقاقات الانتخابية التي مرت بها
الدولة: أولها عملية الاستفتاء على الدستور، وثانيها الانتخابات على رئاسة
الجمهورية.. فقد شتتت قواها، وبعثرت أصوات مؤيديها، ولم تستطع أن تحشد في
الاستحقاق الأول (الاستفتاء على الدستور) تلك الملايين التي حشدتها في 30
يونيو، كي تسقط مشروع الدستور من خلال التصويت عليه بـ (لا).. ثم ارتكبت
الخطأ ذاته في انتخابات الرئاسة، إذ تقدمت بخمسة مرشحين أو أكثر، فتبعثرت
عليهم أصوات مؤيديها، ومن ثم لم يتمكن أي من هؤلاء المرشحين من الحصول على
النسبة التي تؤهله، إن لم يكن بالفوز بالانتخابات من الجولة الأولى،
بالحصول على الأغلبية المطلقة (59%+1)، فعلى الأقل بالترشح للمنافسة في
الجولة الثانية، بالفوز بإحدى المرتبتين الأولى أو الثانية.
ولقد أثبتت نتائج
الانتخابات أن مجموع الأصوات التي حصل عليها مرشحو من يحسبون على المعارضة
(ما بات يعرف بجبهة الإنقاذ) كان كافياً لحصولهم على مرتبة متقدمة في
المنافسة، وحتى لو لم يفوزوا من الجولة الأولى، فإنهم كانوا يضمنون الفوز
في المرتبة الثانية، بنفس الآلية التي فاز بها محمد مرسي على الرغم من أن
الكثير من القوى لم تكن تؤيده في الجولة الأولى، كانت مرغمة على التصويت
لصالحه، لا حبا فيه، ولكن رفضاً للخيار الآخر الذي كان في مواجهته وهو أحمد
شفيق.
وإني أتفق مع ما قاله
الصديق الأستاذ فضيل الامين حول ما سماه (الديمقراطية الانتقائية)، وهي
الديمقراطية التي نؤيدها ونحبها طالما كانت نتائجها في صالحنا، ونرفضها إذا
لم تكن كذلك.. وأتفق معه كذلك تماماً في قوله بأن قبولنا بانتهاك المبدأ
الديمقراطي، مهما كان يبدو في الظاهر في صالحنا، هو خطأ فادح في حق أنفسنا
قبل أن يكون في حق الآخرين الذين قد يتم الاعتداء على حقهم الديمقراطي في
امتلاك رأيهم الخاص وحريتهم التامة في التعبير عنه، وحقهم الكامل في
المشاركة في المنافسة الانتخابية على مختلف مواقع السلطة.
وقبولنا أو سكوتنا على
حملة القمع التي مورست ضد قيادات حزب العدالة والحرية وجماعة الإخوان، هو
خيانة للمبدأ الديمقراطي.. وهو تكريس لهذا الأسلوب القمعي في التعامل بين
الأطراف المتنافسة… وإني لأجد المقام بالفعل مقام الاستشهاد والتأسي بمعنى
قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}.. فنحن أو غيرنا من حقنا ألا نحب
الإخوان المسلمين، وأن نرفض حزب العدالة والحرية، وأن نختلف معهم قليلاً أو
كثيراً في الموقف والرأي والتوجه السياسي، ولكن من (عدم التقوى) لله
سبحانه وتعالى، ومن الظلم والعدوان والافتئات على الحقوق المقدسة للمواطن
في الدولة المدنية الديمقراطية، أن نقبل أن يُعتدَى عليهم، أو أن تُنتهك
حقوقهم الديمقراطية.. ولئن كانوا هم اليوم الضحية، فمن أدرانا ألا نكون نحن
الضحية في يوم قادم.
ولنذكر ذلك القول السائر، ونعتبر بعظيم معناه (أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق