مرة أخرى
الاستفتاء على الدستور
قبل صياغته
بقلم / د . يونس فنوش
لقد عبرت في أكثر من مناسبة، وفي مقالة خصصتها لهذه المسألة بعنوان “الطريق نحو الدستور” عن قناعتي بأن القضية الكبرى في مسألة صياغة الدستور هي بلوغ التوافق على المبادئ الكبرى والقضايا الجوهرية التي نريد أن يتضمنها، ونعني بذلك التوافق حول المسائل التي نعرف ونلمس منذ الآن أنها ليست موضع توافق تام، وأنها ما زالت موضع اختلاف في وجهات النظر والآراء.
وقلت إننا ما لم نصل إلى ذلك التوافق حول ما يذهب إليه تأييد أو موافقة أغلبية معتبرة من المواطنين حول هذه القضايا، فإن أي لجنة صياغة، مهما حرصنا على تكوينها من أفضل ما لدينا من خبرات، وعلى تمثيلها لمختلف شرائح وفئات المجتمع، لن تكون قادرة وحدها على حسم الخيارات فيما يتعلق بهذه المسائل، وأننا مرشحون في هذه الحالة لأن نواجه المعضلة أو المأزق الذي وقع فيه إخواننا المصريون، عندما تغلبت فئة من الفئات داخل الهيئة التأسيسية فصاغت الدستور بما يتوافق مع قناعاتها وتوجهاتها، ثم أصر الرئيس المصري على عرض الدستور الذي لم يكن محل توافق حقيقي على الاستفتاء، وها نحن نشاهد كيف أنهم قد انتهوا إلى إقرار دستور لم يوافق عليه أكثر من 40% من المقترعين.
وإني أرى أن علينا أن نعتبر من هذا الذي حدث في مصر، فنعمل على إيجاد الصيغة المناسبة لبلوغ التوافق وتمحيص توجه الأغلبية المعتبرة من المواطنين حول القضايا الجوهرية الخلافية المطروحة على النظر، مما سوف يتضمنه الدستور، وذلك قبل أن نكلف لجنة لصياغة تلك التوجهات في صياغة قانونية دستورية.
ولعلنا لا نحتاج إلى كثير من النظر كي نتفق على أن القضايا التي بات من الواضح أنها قد تكون موضع اختلاف في الآراء هي محدودة، لا تتجاوز في نظري خمس مسائل، أسمح لنفسي بأن أعددها حسب أهميتها على النحو التالي:
أولاً – مسألة شكل الدولة: وهل تريدها الأغلبية بسيطة أم مركبة (موحدة أم اتحادية)، وهي القضية الأكثر إثارة للجدل، وبتنا جميعاً نخشى أن تكون مثار فتنة أو صراع قد يخرج عن حدود التجاذب السلمي، إلى الصراع العنيف.
ثانياً – مسألة اللغة الرسمية للدولة: أهي اللغة العربية وحدها، أم توجد إلى جانبها لغة أو أخرى من اللغات الوطنية التي تتحدث بها شريحة من السكان.
ثالثاً – مسألة مصادر التشريع وموقع الشريعة الإسلامية منها: هل ننص على أنها المصدر الوحيد أم المصدر الرئيس، أم نتفق على صياغة محددة لما نقصده من تعبير الشريعة (أهو مبادئها العامة أم أحكامها القطعية المتفق عليها).
رابعاً – مسألة نظام الحكم: وهل نريده برلمانيا أم رئاسياً أم شبه رئاسي.
خامساً – اسم الدولة ونشيدها ورايتها الوطنية.
وإني أرى أن الحل الأمثل هو عرض هذه المسائل الخمس على استفتاء عام، ثم نخلص من نتيجة الاستفتاء إلى تحديد الخيارات التي تحظى بأغلبية معتبرة من المواطنين، ونعني بالأغلبية المعتبرة أغلبية لا تقل عن الثلثين، ثم نضع هذه النتائج أمام لجنة نختارها لصياغة الدستور، وفي هذه الحالة لن نكون بحاجة إلى لجنة كبيرة العدد، وربما تكفينا لجنة من (6) أشخاص أو لنقل (10)، نكلفها بصياغة ما توافق عليه الناس في صياغة قانونية دستورية.
وهذا ما قصدته بعنوان مقالتي هذه؛ إذ أدعو إلى إجراء الاستفتاء على مضمون الدستور ومحتواه، قبل العكوف على صياغته.. وذلك لقناعتي بأننا ما لم نصل إلى تبين توجهات الناس حول هذه المسائل الحيوية، فإننا لن نكون قد فعلنا شيئاً سوى إزاحة المشكلة أو المعضلة إلى لجنة لن يكون بمقدورها أن تحسم الخلافات في الآراء بين أعضائها، دون أن يكون لديها ما تستند إليه، مما يشير إلى قناعات الناس واختياراتهم.
أعرف أن هذه الفكرة سوف تصطدم بإشكالية الإعلان الدستوري، وما ينص عليه من انتخاب لجنة تأسيسية (لجنة ستين)، تخول صياغة مشروع الدستور. ومع أني على الصعيد الشخصي أتمنى أن نجد وسيلة للتخلص من هذا الالتزام، أعني بانتخاب لجنة صياغة الدستور، إلا أني يمكن أن أذهب مع أولئك الذين يرون لهذا الانتخاب ضرورة، ويرجون من ورائه فائدة، فأتقدم خطوة لألتقي وإياهم على فكرة قد تكون فيها مصلحة وهي فكرة الاستفتاء المتزامن مع الانتخاب.
وقد شرحت هذه الفكرة مراراً وهي تتمثل في أن يدعى الناخبون للإدلاء بأصواتهم في صندوقين: أحدهما يضعون فيه الورقة التي يختارون فيها مرشحيهم للجنة الدستور، والثاني يضعون فيه ورقة استفتاء تصمم خاصة حول المسائل الخمس التي أشرنا إليها، بعد أن يضعوا إشارة على الخيار الذي يوافقون عليه.
بهذه الطريقة نكون قد أسهمنا بقدر كبير في تسهيل المهمة على لجنة صياغة الدستور، التي يصبح بإمكانها منذ البدء الاستئناس بالنتائج التي انتهى إليها الاستفتاء، فيضعون في مشروع الدستور الخيارات التي تتجه لتأييدها الأغلبية المعتبرة من المواطنين (لا تقل عن 70% مثلا)، وبذلك نكون قد ضمنا مسبقاً أن يحظى مشروع الدستور بعد إتمام صياغة تفاصيله على تأييد الأغلبية المطلوبة لإقراره.
إني مقتنع تماماً بأننا بحاجة في جميع الأحوال إلى اللجوء إلى استفتاء جمهور الناخبين حول الخيارات الدستورية التي تؤيدها أغلبيتهم. وبحاجة بالتزامن مع ذلك لبلوغ مستويات متقدمة من الحوار الوطني التصالحي التوافقي بحيث نقبل جميعنا بمبدأ الاحتكام إلى رأي الأغلبية، مع قبول الأقلية بذلك الرأي، دون الدخول في مغامرة جر البلاد إلى حالة التجاذب والتنافر، من خلال إصرار كل طرف على فرض إرادته ورأيه على الجميع، ولو كان هذا الرأي لا يمثل إلا رأي أقلية، لا يصح عقلاً أن يفرض فرضاً على الأغلبية.
هاتف: 0925121949 / e-mail: fannushyounis@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق