يتكاثر
الأوصياء حولنا، أوصياء السياسة، وأوصياء الدين، وأوصياء الأخلاق، وأوصياء
المجتمع بعاداته وتقاليده، وأوصياء المعرفة، وأوصياء الثقافة والفنون، في
حين تغيب الفردانية الإنسانية العربية يوما بعد يوم، ويقل المختلفون،
وتتكاثر المجتمعات القاصرة التي تحتاج للوصاية الأبوية من إحدى تلك الجهات
أو كلها. وتظل علاقة الإنسان العادي البسيط بالوعي والمساءلة غائبة أو
مقيدة بحتمية المراقبة من كل ما حوله كالأسرة والشارع والمدرسة والمجتمع،
دون أن يمنح أبسط حقوق الاختلاف والمغايرة، فيتربى الضمير العربي تربية
النقص والقصور، فالجميع قاصر وناقص ويحتاج للرعاية والتدخلات الأبوية
المتعددة لتحديد مساراته نحو الوجهة الصحيحة، وضبط سلوكه الفردي كي لا يحيد
عن بوصلة الجمع.
مجتمعاتنا التي تهب الجميع من الخارج صورة مثالية عن
كل شيء، عن أخلاقها، ووعيها وحريتها وثقافتها وقوانينها ومؤسساتها عبر
إعلام مسيّس، وحقائق مخفية، وما أن يرفع البعض صوته جهرا لنقص ما، أو
سبابته اعتراضا في اتجاه خلل أو قصور ما، حتى يحاصر ويوضع في قفص التربية
الشاملة، التربية الجبرية (الأمنية أو الجمعية) التي تعيده لجادة الطريق،
وتقبض على صوته ويده حتى لا يعاود الكرة مرة أخرى، وحتى يكون عبرة لمن
يعتبر.
ينطبق الأمر على الإنسان العادي البسيط الذي يحاول الخروج على
حصار الذات والمكان والضيق باختراع مساحات خاصة له ليمارس فيها حريته
الفردانية، ببساطة وخفة، تماما كما ينطبق على المثقف وعلاقة الارتياب
المزمن منه، ووضعه أبدا في موضع المراقبة والمساءلة والتربّص، والمحاسبة
الصارمة إن لزم الأمر، حتى يعود للنسق الجمعي (المقدّس أو القطيعي)، في
التعاطي والتفكير والتمجيد، أو يصمت للأبد عن مناطق التابوهات المحرّمة في
أعراف مجتمعات تتكاثر تابوهاتها بتكاثر أخطائها، في تجاهل لدور النقد في
بناء المجتمعات وتقويمها، وصناعة الإنسان وتربيته، وفي غفلة أو تغافل عن
أهمية حرية الفرد في التعبير عن ذاته، ودورها في تحقيق السلام الداخلي
والتعايش الطبيعي مع الآخر والمكان، وأن ذلك يمثل أبسط ضرورات الحياة
كالتنفس تماما، وأن ما يكتبه ويفعله الإنسان في حيواته الخاصة أو على
مساحات الضوء التي باتت المتنفس الوحيد في عتمة الصمت وكثرة الحواجز
والممنوعات. هو حرية شخصية وحالة ذاتية تماما بدءا وخاتمة، يحتاجها الإنسان
ليستمر في هذه الحياة، كي لا ينهيها بخيار وجودي أصعب إذا كثر القهر
واشتدت القبضة، ولعل الجميع يدرك تماما أن الموتى أكثر من الأحياء في
مجتمعاتنا القطيعية هذه، وأن الموت البطيء هو أكثر وربما أجمل أشكال الحياة
التي يعيشها أغلبنا.
إن الاختلاف هو بداية صحة الوعي، وسلامة العقول،
وعلى الجميع إدراك أن أي رأي ليس مقياسا لفكرة ما، كما أن رأي أحدنا مهما
كانت مصادره وصدقه وقوته، ليس مسوغا لنفي الآخر، أو حتى تبرير اعتقاله،
مهما اختلفنا معه. فالحرية حق شرعي مكفول بالقانون الذي يضبط علاقة
المواطنة خارج كل وصاية للسياسة أو الدين أو المجتمع، وبالتالي فالدفاع
ينبغي أن يكون عن الفكرة وليس عن الأشخاص، فما ينبغي الدفاع عنه دائما هو
حرية الرأي الذي يمكن أن نختلف معه أو نتفق، ولكن يجب أن نقوله، وأن نضمن
للآخر حق قوله، لنضمن التعددية الفكرية. فالمجتمع الحقيقي هو من يدرك أن
حرية التعبير حق أصيل لكل إنسان فيه، شأن كل الحقوق المدنية، وليس هبة،
تُمنح أحيانا وتُمنع أحيانا أخرى، أو تعطى بدرجات متفاوتة حسب الظروف
والحالات، ومع كل ذلك يجب الشكر عليها والاعتراف بفضل مانحها.
إن حرية
التعبير هي برهان المجتمعات المتقدمة، والحكومات العادلة. وأن ما يحدث من
قمع لحرية التعبير، باستدعاء كل من يختلف مع السلطة أو مع المجتمع «القاصر»
من وجهة نظرها، والذي تجب حمايته كي لا يفسده كل من يكتب تغريده على مواقع
التواصل الاجتماعي، وإيداعهم السجون لأي فكرة جديدة يكتبونها، وتجييش
العامة عليهم، من باب أنهم حملة الفكر التخريبي، وهدّام الأمن القومي،
وغيرها من الأطروحات الساذجة التي تلجأ إليها لإثبات فوقيتها الأبوية،
وقصور المجتمع، وتشويه صورة المثقف، وتقديم دروس مجانية لكل من تسول له
نفسه طرح فكرة مختلفة نوعا ما، أو تقديم نقد لظاهرة فكرية أو سياسية أو
دينية بأنهم له بالمرصاد؛ فما كل هذا إلا تجهيل للشعوب بشكل آخر، وحجز
مستويات وعيها في الخوف والتردد، لأنها بذلك تصنع مجتمعات قاصرة تبحث عن
الحماية الأبوية من ظل كلمة أو جدل بسيط، ليقف أفراد هذه المجتمعات بشراسة
في مواجهة الحرية التي هم أولى بالدفاع عنها، مدعين بذلك التحرّز من الفتن،
أو حماية الوطن.
إن المجتمعات الحقيقية تدافع بضراوة واستحقاق عن كل ذي
مظلومية، وعن كل إنسان اعتُقل بسبب فكرة ما، ليخرجوه من هناك أولا، ثم
يرفعوا سباباتهم في وجهه، ويحاكموه هم، ليناقشهم ويوضّح فكرته بحرية،
ليؤكدوا على حقه في الاختلاف، وحقهم في النقد والمساءلة. فهذا قانون الوعي،
فمن الطبيعي جدا أن نختلف، وأن يرفض كل منا رأي الآخر، ولكن على المجتمع
بالضرورة أن يمنحه الحق التام في القول، دون محاربته بأساليب رخيصة، بل
الدفاع عنه بقوة وحزم. هذا لكي لا نتحول إلى مجتمعات مريضة بالكلية
والاطلاق الجمعي، تفصّل البشر على مقاسات محددة، وتخلق نسخا ببغاوية تردد
كل شيء بلسان (آمين)، مجتمعات تخاف من الكلمة، ويرعبها الرأي، وتنتظر (حراس
القيم) حتى يوفروا لهم الحماية.
فها نحن في القرن الحادي والعشرين وما
زلنا بعيدين جدا عن طريق الحرية الحقيقي، والتفكير الناضج، والوعي الإنساني
العميق بمسلماته البدهية، كمحاورة المختلف وتقبل الرأي الآخر، وأبعد ما
نكون عن المجتمعات الصحيّة بتباين مكوناتها الفكرية والدينية والسياسية
القائمة على الجدل والمماحكة والنقاش، فمازلنا نحتاج إلى الوصاية والحماية
من فكرة أو أخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي ذلك لا يختلف ـ للأسف
الكبير ـ العوام عن أشباه المثقفين. ولذا فلا عجب أننا مازلنا نراوح مكاننا
في كل شيء، لأننا لم نمنح حق المقارعة والمماحكة في شيء يوما ما، فكل شيء
يأتينا جاهزا، وكأننا أصغر وأقل من الاختــيار أو التمــحيص والجدل. فلم
نتعلم يوما محاورة البعيد والغريب من الأفكار، ولم يمتحن إنساننا
ومجتمعاتنا قدرتها على الحوار بوعي ومسئولية واحترام!
فكيف لنا أن ننضج، ونتجاوز النقص والقصور لنناقش فكرة المواطنة وقيمة الاختلاف!
كاتبة عُمانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق