بائع الوهم
أحمد ابراهيم الفقيه
تزدهر تجارة الوهم، تلك التي تتصل بالصحة والعلاج، في مجتمعات الفقر
والتخلف، وغياب العلم والتعليم، وضعف الخدمات الطبية، فيكون البديل هو
الشعوذة، وكتابة الأحجبة والرقى، من قبل أناس جهلة.
يجدون في هذه الخدع والحيل مهنة سهلة لكسب المال، تغنيهم عن الأعمال العضلية التي يقوم بها أقرانهم لكسب الرزق، عمالا زراعيين أو صناعيين أو عتالين في الأسواق والموانئ وسائقين لسيارات الشحن والأجرة، أو غيرها من مهن لا وجود لمهن سواها لمن لا يقرأ ولا يكتب ولا يجيد حرفة من الحرف، وهي تجارة كانت تنتشر انتشارا كبيرا في أزمنة ما قبل النفط في ليبيا وكنت شخصيا زبونا لها في مراحل الطفولة والصبا في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، وبإرشاد وتوجيه من الأهل، فهم من كان يقودني لأحد هؤلاء المشعوذين الذين يسمون أنفسهم فقهاء، أو أطباء شعبيين.
والحمد لله انني
خرجت سليما من وصفات كتبوها أو صنعوها لي لأضعها في جوفي، أحدهم كتب
بالصمغ حروفا مشتبكة يصعب قراءتها قال إنها تعويذة فقهية، فوق لوح خشبي من
الألواح التي تستعمل في تعليم القرآن، ثم غسل اللوح بالماء وطلب مني أن
أشربه، ومرغما تحت الحاح الوالد شربته، وتقيأته بعد ذلك، ومرة ثانية كان
الذي شربته ليس ما خطه الفقيه فوق اللوح ولكن الورقة التي كتبها وأمر ان
تنقع في الماء لليلة كاملة ثم أشربها على الريق، وهو ما حصل ليس بارادتي
واختياري ولكن بالجبر والغصب، وهو واقع كان هناك ما يبرره، فلم يكن هناك
وجود لمستشفيات أو مصحات أو عيادات خاصة أو عامة في الأرياف التي ننتمي
اليها.
كذلك فإنه يحدث في ظل مجتمع كانت نسبة الأمية فيه تزيد عن تسعين في
المائة، ويحدث في مجتمع كان أغلب عائلاته تعيش تحت خط الفقر، ولا يزيد دخل
العائلة عن دولار أو نصف دولار في اليوم، ولكن المشكلة ان يظل هذا مستمرا
بعد خمسين عاما من التعليم وانتشار المستشفيات والجامعات وبعد ان قفز الدخل
العام للبلد إلى مئات الأضعاف ونسبة دخل الفرد تصل إلى خمسة عشر ألف
دولار.
ومع ذلك تزدهر الشعوذة وينتشر باعة الوهم بأكثر مما كانوا في أزمنة
الفقر والمسغبة، إذن، فهو أمر لا يتصل بالمستوى المعيشي، ولا يتصل حتى
بمستوى التعليم، وإنما يتصل بمفاهيم راسخة في النفوس ما زالت برغم ما حصل
من تطور في مناحي الحياة لم يلحقها تقدم ولا تحديث ولا تجديد.
وصارت جزءا من ثقافة عامة شائعة في المجتمع، لا تخترقها الجامعات ولا المراكز العلمية ولا وسائل الإعلام بما فيها من سماوات مفتوحة وما صار متيسرا عبر أجهزة الكومبيوتر وشبكة المعلومات العالمية، طبقة صخرية صامدة في وجه المعطيات الحضارية وتدرج الإنسان في العلوم والمخترعات الطبية، يعززها تجريف ثقافي رافق هذا التقدم الاقتصادي وانتشار المدارس، لأنه يكرس المفاهيم الجامدة ويستثمر في تنمية التفكير الخرافي وتغييب العقل، ويعتمد على نوع من التعليم التلقيني الذي لا يتيح فرص الابتكار والتطور ولا يتيح للمجتمع ان ينفتح على العالم ويستوعب إنجازاته الحضارية، فظلت تجارة الوهم مزدهرة، وظلت للخرافة سطوتها على العقول والقلوب رغم أنوار العصر الحديث التي تغمر أركان العالم.
أحمد ابراهيم الفقيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق