شريعة الراعي بلغة الخروف
نصّ: الصادق النيهوم
أقصر طريق يسلكه الحزب السياسي لكسب المعركة على السلطة، هي أن يلبس جبة
الدين، ويطالب الدولة بتطبيق قوانين الشريعة. لكن مشكلة هذا الطريق
القصير، أن قوانين الشريعة بالذات، لا تطبقها الدولة بل يطبقها المواطن.
فإذا مرّت المغالطة، ونجحت الأحزاب الدينية في مسعاها، وتمّ تطبيق قوانين
الشريعة في دول الوطن العربي، حتى صار لكل حكومة بوابة رسمية على الجنة،
فإن المواطن العربي شخصياً، سوف لن يشارك في هذا العرس، ولن يؤدي فيه دوراً
نافعاً، سوى أن يحمل الطبل والحطب.
إنه لا يستطيع أن يطبق الشريعة حتى بمعونة من فقهاء الحزب. فالمشكلة من أساسها، ان المجتمع العربي نفسه، مجتمع غير شرعي، خلقته مؤسسات إقطاعية معادية لمعظم مبادئ الإسلام، من مبدأ المساواة والشورى، إلى مبدأ تحريم الحكم الفردي، وضمان حرية الحوار والقضاء. وقد تأسس على نظرية تحكيم القوة، والتعصب الطائفي، وتقديس الخرافة، وتحول منذ عصر الحجاج إلى مجتمع من الصيادين، قائم برمته على شريعة «اصطياد الفرص».
وإذا شاءت الأحزاب الدينية أن تطبق قوانين الشريعة في مثل هذا المجتمع المعقد، فإن المواطن العربي نفسه، سوف يكون آخر من يسمع. فهذا مواطن لا يعيش في كتب الفقه، بل يمارس تجربة الحياة في مجتمعه عملياً، ويعرف أنه مجتمع شريعته تحكيم القوة، وليس تحكيم الله، وأن ما يقوله رجال الدين بالذات، مجرد كلام في غياب الكلام.
فالواقع أن الشرع الإسلامي لا يمكن تطويعه لخدمة أغراض الإقطاع، لأنه لا يعيش معزولاً في صوامع رجال الدين، بل يعيش بين الناس، في كتاب بلغتهم العربية، يخاطبهم مباشرة من دون مترجمين، ويقول لهم كل يوم إن أول شرط لتطبيق الشريعة، هو إنهاء مجتمع الإقطاع. وفي وجه هذا المنشور السماوي، لا يملك الإقطاعيون وحلفاؤهم حلاً، سوى أن يجلسوا في انتظار القارعة.
المواطن العربي يملك نسخة من القاموس الأصلي، ويعرف أن تطبيق الشريعة، يحتاج أولاً إلى مجتمع شرعي، وأن الناس الذين يعيشون تحت سلطة فرعونية، لا يملكون مثل هذا المجتمع، وليس بوسعهم أن يطبقوا فيه شريعة أخرى سوى شريعة فرعون.
فالقانون الذي يحكم بقطع يد السارق في مجتمع إقطاعي، لا يستطيع أن يسري على جميع الأيدي السارقة، وليس بوسعه أن يحمي الناس ممن يسرقهم علناً. والقانون الذي يحرم دفع الفوائد المصرفية في نظام إقطاعي، لا يحرم الربا، بل يحارب الادخار، إنه لا يستطيع أن يمنع عمليات الربا الحقيقية، مثل التلاعب بالأسعار، واحتكار السلع، وزيادة الرسوم الجمركية، ورفع نسبة العمولة، لأن هذه العمليات تتم فوق رأس القانون، داخل غرف مغلقة، تحت حراسة رسمية من رجال القانون بالذات.
والقانون الذي يحرم الاختلاط بين الجنسين، ليس تشريعاً دينياً ضد الرذيلة، بل حلاً إقطاعياً لتمرير الرذيلة بضمان من الشرع. فمنع الاختلاط يغلق باب العمل الشريف في وجه المرأة، ويحرمها من حقها في التأهيل المهني، ويجعل جسدها هو سلعتها الوحيدة القابلة للتسويق، مما يحيلها بقرار «شرعي» إلى مخلوق معاق، يتوقف بقاؤه على بقاء الإقطاع بالذات. ووراء جدران البيت الاقطاعي، تتحول المرأة إلى جارية، وتسري عليها شريعة الجواري، من إنكار حقها في الطلاق إلى إنكار حقها في الهرب، وإلزامها بالعودة إلى بيت الطاعة تحت حراسة الشرطة. والقانون الذي يمنع القمار والخمر في مجتمع إقطاعي، لا يمنعهما فعلاً، بل يجعلهما لعنة ضــرورية. فالمـــواطن لا ينفق حياته في شرب الخمر ولعب الورق، لأنه رجل فاسد، بل لأن حيــاته نفــسها فاسدة، وجوفاء وكئيبة، ولا تحوي شيئاً مفيداً أصلاً. وهي كارثة تحيق بحياة الناس في ظل الإقطاع بالذات، وتنشر روح الضياع بينهم، وتحيل جلسات الخمر والقمار إلى منافذ سهلة للهرب.
وإذا شاءت الشريعة أن تدين هذا الواقع من دون أن تدين أسبابه، فإنها لا تحد من انتشار الخمر والقمار، بل تجعلهما وباءً سرياً. فالإسلام الذي يبشر به القرآن، ليس شريعة تطبقها دولة، بل دولة أخرى في حد ذاته: إنه نظام محدد في الحكم، يقوم على مبدأ الشرع الجماعي، ويعتمد ادارة جماعية، تنعقد للعمل في يوم اسمه يوم الجمعة، تحت قبة برلمان رسمي اسمه الجامع. وإذا شاءت الأحزاب الدينية أن تطوع هذا الشرع الجماعي لخدمة رجل واحد، أو حزب واحد، فإن النتيجة الوحيدة المتوقعة من وراء هذا السحر السياسي، هي أن تقوم الدولة الإسلامية، وتسقط دولة الإسلام. تسقط حكومة الناس.ويغلق الجامع أبوابه، ويغيب الحوار السياسي، ويخسر المواطن صوته، حتى يصبح مواطناً أخرس، وغير مسؤول شرعاً عما يقال على لسانه بجميع الأصوات. وبعد ذلك يسود الصمت.
فقرات من مقال نُشر في مجلة «الناقد»، آب (أغسطس)، 1991
رجل الانعتاق والتناقض
رغم أنّ بدايات اهتماماته كانت أدبية، فكتب قصصاً للأطفال، وروايات
(أبكرها «من مكة إلى هنا»، 1970)؛ فإنّ الكاتب والمفكر الليبي الصادق
النيهوم (1937 ـ 1994) سرعان ما انتقل إلى الحقل الأثير الذي سيلازمه حتى
رحيله: الإسلام، والأديان المقارنة. هذه كانت موضوعات أطروحته الأولى
للدكتوراه، في جامعة القاهرة ، تحت إشراف عائشة عبد الرحمن؛ وهكذا سوف يتابع الدراسة في جامعة ميونيخ، وجامعة أريزونا، والتدريس في جامعة هلسنكي، فنلندا.
أعماله الفكرية تعاقبت، بعد أن كانت في معظمها قد نُشرت على هيئة مقالات منفردة، في العديد من الدوريات العربية: «فرسان بلا معركة»، «محنة ثقافة مزورة»، «صوت الناس»، «الإسلام في الأسر»، «إسلام ضد الإسلام»، «الرمز في القرآن»… جلي، من هذه العناوين، أنّ النيهوم وجّه سهام نقده إلى الأطراف المسؤولة عن تشويه الإسلام وروح الشريعة، خاصة فقهاء السلطة والمؤسسات الدينية الرسمية؛ فاعتبرها سبب مشكلات المرأة والطفل والشيخ، والمجتمع عامة. وبذلك فإنّ أفكار النيهوم كانت تستبق، وإنْ على نحو حذر، ما ستشهده المجتمعات العربية من صعود للخطابات الدينية المتشددة؛ واتسمت، إلى هذا، بنبرة نقد حذرة ومفرطة الهدوء أحياناً.
الأمر الذي لم يجنّب النيهوم الوقوع في أنماط من التناقض، ذات طابع منهجي غالباً، فضلاً عن ضعف تأصيل الأطروحات من حيث جذورها التاريخية. فعلى سبيل المثال، كان ذات يوم قد فاجأ القرّاء بمقالة عنوانها «قواعد الإسلام ليست خمساً»، ساجل فيها أنّ اعتماد هذه الأركان لا يستند إلى نصّ قرآني، بل إلى حديث رواه أبو هريرة؛ وأنّ القصد منها هو تمكين السلطة الاستبدادية للدولة الأموية. لكنه، في المقابل، لم يكترث بالبحث في الأسباب التي أبقت هذه الأركان قيد التطبيق بعدئذ، ليس في الدولة العباسية وحدها، بل على امتداد كامل التاريخ الإسلامي.
تناقض آخر هو الموقف من مفهوم الديمقراطية، إذْ في حين أنّ النيهوم لم يكفّ عن انتقاد «الإقطاع» الذي يتحكم بالنظم السياسية العربية؛ فإنه، من جانب آخر، اعتبر أنّ «الكلام عن الديمقراطية في مجتمع من دون عمال ومن دون رأسمال مجرد كلام غير ضروري بين ناس غير ضروريين لا أحد يريد أن يسترضيهم ولا أحد يهمه أمرهم وليس لهم صوت وليس لصوتهم ثمن»!
ويبقى، بالطبع، ذلك الانتقاد المشروع الذي جوبه به النيهوم، من أصدقائه قبل خصومه في الواقع: أنه كان صديق نظام معمر القذافي، ولم يرفع صوتاً للدفاع عن الحريات العامة وإطلاق سراح معتقلي الرأي. وذاك كان أكثر من مجرد تناقض، في مشروع فكري تغنى بالحرية والانعتاق من أسر الجاهلية!
نصّ: الصادق النيهوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق