بقلم … شُكْري السنكي
قـد أرَدتـم لنـا الحيـاةَ،
فَمِتُّـمْ فـغـدَوتـم وأنتـمُ الأحـيــاءُ (1)
فَمِتُّـمْ فـغـدَوتـم وأنتـمُ الأحـيــاءُ (1)
المُقدِّمَة
ارتكب نظام معمّر القذّافي في 29 يونيه / حزيران 1996م جريمة كبرى من بين جرائمه التي لا تعد ولا تحصى منذ الاستيلاء على السّلطة بإنقلاب وقع يوم الإثنين الموافق 1 سبتمبر / أيلول 1969م. أقدم مجرمي النظام بقيادة عبدالله السّنوسي في يوم السبت الموافق 29 يونيه / حزيران 1996م – وخلال ساعة واحدة فقط – على قتل ألف ومائتين (1200) سجين سياسي داخل سجن بوسليم بطرابلس. وقد استخدام النظام في تنفيذ جريمته رشاشات الأغراض العامّة وبنادق الكلاشنكوف والغدارات والقنابل اليدوية (رمانات) وغيرها. وبعدئذ، نُقلت الجثث في شاحنات لتدفن في مقابر جماعيّة.
اهتمت المنظمات الحقوقيّة الِلّيبيّة، وتنظيمات المعارضة في الخارج، وكافة النشطاء السّياسيين والحقوقيين الِلّيبيّين بملف مذبحة سجن بوسليم، وأصبح هذا الملف منذ معرفتهم به مركز اهتمام الجميع في مختلف أنشطتهم السّياسيّة والحقوقيّة.. وتحركاتهم المحليّة والإقليميّة والدّوليّة. وتابعت المنظمات الحقوقيّة الِلّيبيّة (الرَّابطة الِلّيبيّة لحقوق الإنسان، مؤسسة الرقيب لحقوق الإنسان، الاتحاد الِلّيبي للمدافعين عن حقوق الإنسان، مؤسسة الكرامة لحقوق الإنسان، اللجنة الِلّيبيّة للحقيقة والعدالة) ملف المذبحة.. وعقدت العديد من الندوات والمؤتمرات حول هذا الملف.. وأصدرت البيانات والمعلومات التي تخص أخر تطورات القضيّة.
ونشرت الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا (2) تقريراً مفصلاً عن مذبحة سجن بوسليم مصحوباً برسومات توضيحية تبين مبنى السجن (حجراته وزنزاناته وممراته).. أقسام السجن وعنابره.
وكان التحالف الِلّيبيّ الأمريكي (American Libyan Freedom Alliance) المعروف باسم ألفا (ALFA) هُو الجهة التي رتبت للمؤتمر الصّحفي الّذِي انعقد في واشنطن في صيف 2004م، والّذِي قدمت فيه تفاصيل جريمة القتل الجماعي في سجن بوسليم.
عقد الأستاذ حسين رجب الشافعي السجين السّياسي السّابق في سجن بوسليم، الّذِي وصل إلى الولايّات المتَّحدة بترتيب مع مؤسسة ألفا (3)، مؤتمراً صحفياً في بيت الحرية بواشنطن يوم الثلاثاء الموافق 28 يونيه / حزيران 2004م. وروى الشافعي في هذا المؤتمر الّذِي حضرته العديد من وسائل الإعلام العالميّة، الأحداث التي شهد عليها، والتفاصيل الكاملة للجريمة المروعة لمذبحة سجن بوسليم بطرابلس. وفي إطار تغطية قناة الحرّة الفضائيّة لزيارة وليم بيرنز مساعد وزير الخارجيّة الأمريكيّة لشئون الشّرق الأوسط والوفد المرفق له الّذِي ضمّ كوفر بلاك منسق الوزارة لمكافحة الإرهاب، تحدثت القناة عن اجتماع وليم بيرنز مع معمّر القذّافي مساء يوم الاثنين 27 يونيه / حزيران، والقضايا التي طُرحت في اللقاء، وهي: ملف الإرهاب وعلاقة أجهزة القذّافي بمحاولة اغتيال الأمير عبدالله بن عبْدالعزيز آل سعود. وتحدث مراسل القناة في إطار تغطيته لزيارة وليم بيرنز، عن مذبحة سجن بوسليم التي حدثت 29 يونيه / حزيران 1996م، وأجرى مقابلة سريعة مع حسين الشافعي أحد السجناء السّابقين لسجن بوسليم.
واهتم المؤتمر الوطنيّ للمعارضة الِلّيبيّة (4) منذ انعقاد مؤتمره الأوّل في لندن في صيف 2005م بملف مذبحة سجن بوسليم، وبكشف جرائم نظام القذّافي للرأي العام العالمي، ودعم موقف أهالي الضحايا ومساندة مطالبهم المشروعة. وبدأ المؤتمر في صيف عَام 2009م -وبعد انعقاد مؤتمره الثّاني – في اتخاذ الخطّوات العمليّة لمقاضاة نظام القذّافي على جرائمه وتحديداً جريمة مذبحة سجن (بوسليم) بعد أن أصدر عدة بيانات توضح الإجراءات التي ستتبع لرفع دعاوى أمام المحاكم الأوربيّة المختصّة ضدّ معمّر القذّافي وأعوانه، باعتبارهم مسئولين مسئوليّة شخصيّة مباشرة عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة في سجن بوسليم. ودعا المؤتمر جموع الِلّيبيّين في بيان أصدره بتاريخ يوم 26 يونيه / حزيران 2009م، إلى التعاون من أجل مقاضاة القذّافي وأعوانه، وأهالي الشهداء بإرسال توكيلاتهم إلى لجنة المؤتمر التنفيذيّة، مؤكداً بأنه سيقوم باتخاذ كافة الإجراءات والترتيبات التي من شأنها المحافظة على سريّة التوكيلات وعلى أمن وسرية الشهود وعلى كافة الإتصالات التي يبعث بها أصحابها، وصولاً إلى رفع المظالم واسترداد الحقوق وملاحقة ومعاقبة المجرمين الجناة.
وساهم المؤتمر الوطنيّ للمعارضة الِلّيبيّة بالتنسيق مع مجموعات العمل الوطنيّ في الولايّات المتَّحدة والدول الأوربيّة، في اعتصامات المهاجرين الِلّيبيّين في ساحات المدن الأوربيّة والأمريكيّة المختلفة، الدّاعمة لمطالب أهالي الضحايا والكاشفة لجريمة سجن بوسليم للرأي العام العالمي.
وتبنى موقع ليبَيا المُسْتقبل (5) ملف مذبحة سجن بوسليم، وخصص له مكاناً خاصّاً داخل الموقع يجمع كل ما يخص المذبحة وضحاياها تحت عنوان: مذبحة سجن بوسليم (جريمة قتل جماعي). ويرصد تطورات القضية ونشاطات أهالي الضحايا وكافة المهتمين بالمذبحة، تحت عنوان: (متابعة أخر تطورات القضيّة).
وعقد الأستاذ حسن الأمين رئيس تحرير الموقع عدة لقاءات مع فتحي تربل محامي أهالي ضحايا سجن بوسليم، وحسين الشافعي (سجين سياسي سّابق في سجن بوسليم)، وبعض رؤساء تنظيمات المعارضة الِلّيبيّة في الخارج، وعدد من المسئولين في المنظمات الحقوقيّة الِلّيبيّة المختلفة. وعقد أيْضاً لقاءات أخرى مع بعض الشخصيّات العربيّة والدّوليّة المهتمة بملف حقوق الإنسان، أهمها: منصف المرزوقي (الرئيس الحالي للجمهوريّة التونسيّة بعد انتخابه في 13 ديسمبر / كانون الأوَّل 2011م، والرئيس السّابق للجنة العربيّة لحقوق الإنسان)، هبة مرايف (منظمة هيومن رايتس ووتش)، هيثم مناع (اللجنة العربيّة لحقوق الإنسان)، عبْدالحسن شعبان (عضو مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان).
والشاهد، سمع المعارضون الِلّيبيّون في الخارج خبر مذبحة سجن بوسليم في اليوم الثّاني من حدوث الجريمة، فاهتموا بالخبر اهتماماً كبيراً، وأبلغوا الهيئات الدّوليّة والإقليميّة والبرلمانات والحكومات كل المعلومات التي بحوزتهم حول الجريمة. وقد أكد الأستاذ علي زيدان (6) على اهتمام قوى المعارضة في الخارج بهذا الملف مُنذ سماعهم لخبر المذبحة إلى أن بدأ حراك عائلات الضحايا بالتظاهر الأسبوعي في مدينة بّنْغازي وبعدها إشعالهم لشرارة الثورة حينما خرجت أمهات وأرامل شهداء سجن بوسليم أمام مديرية الأمن في بّنْغازي مساء يوم الثلاثاء 15 فبراير / شباط 2011م، بعد اعتقال فتحي تربل محامي أسر الضحايا، مطالبات بإطلاق سراح المحامي، ومتمسكات بحقوقهن في القصاص العادل من مرتكبي هذه الجريمة النكراء. هذه المظاهرة تحولت يومي 16 و 17 فبراير إلى ثورة عارمة، انتهت بمقتل معمّر القذّافي وسقوط نظامه القمعي الدموي.
وبِالخُصُوْص، ذكر الأستاذ علي زيدان في شهادته الواردة في كتاب عبْدالرَّحمن شلقم الصّادر في منتصف عَام 2012م تحت عنوان: (نهاية القذّافي) ما يلي:..”.. وصلتني معلومة عن مذبحة سجن بوسليم ثاني يوم بعد حدوثها أثناء وجودي في روما فأبلغت منظمة العفو الدّوليّة في نفس اليوم حيث انتقلت من روما إلى لندن واجتمعت بمسؤول الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي اليوم التالي، سافرت إلى باريس حيث مقر الفيدراليّة الدّوليّة لحقوق الإنسان، واستقبلي السّيِّد أنطوان برنار مدير الفيدراليّة ومساعدته سارة وكان موجوداً بالمصادفة السّيِّد باتريك بادوان رئيس الفيدراليّة السّابق.. فأطلعتهم على الفور عن تفاصيل ما حدث في سجن بوسليم، ودوّنوا أفادتي في محضر الاجتماع ووعدوا بالمتابعة ومواصلة التحرَّي والبحث حول ما تمّ بالسجن. ومُنذ ذلك اليوم أصبح ملف بوسليم الأوَّل في تحركي من خلال الرِّابطة وغيرها من الهيئات الدّوليّة والإقليميّة والبرلمانات والحكومات في مختلف المناشط السّياسيّة والمؤتمرات والندوات ومن خلال أجهزة الإعلام المختلفة، ومُنذ أن بدأ حراك عائلات ضحايا بوسليم بدأت المتابعة يومياً لهذا الملف، بالتواصل مع كل الجهات المعنية، الإقليميّة منها والدّوليّة..”.
وَالمُهِم، اضطر النظام – وبفعل ضغوطات المنظمات الحقوقيّة الِلّـيبيّة في الخارج، والمنظمات الحقوقيّة الدّوليّة – للكشف عن مجزرة سجن بوسليم التي ظلّت طويلاً طي الكتمان، وظلّ ذوي ضحاياها يجهلون مصير أبنائهم لأكثر من (12) اثنتي عشرة سنة يعمها الأسى والحزن والترقب. وبدأ النظام المجرم في مارس / آذار 2009م طرق بيوت مجموعة من العائلات وإبلاغهم عن وفاة أبنائهم داخل سجن بوسليم بطرابلس، فقامت السّلطات الأمنيّة حتّى يوم 19 مارس / آذار 2009م.. (.. بتبليغ نحو ثلاثمائة عائلة من أهالي ضحايا حادثة القتل الجماعي في سجن بوسليم بوفاة ذويهم..)، وفقاً لتقرير نشره خالد المهير مراسل (الجزيرة نت) بتاريخ نفس اليوم.
وخلال يومي 16 و18 مارس / آذار 2009م، تمّ إبلاغ مجموعة من عائلات الشهداء في مدينة بّنْغازي عن وفاة أبنائهم، وكان صالح يُوسف ذياب زميل الدّراسة والصديق العزيز واحداً من بين أؤلئك الشهداء (ونحسبهم عند الله كذلك) الذين تمّ إبلاغ ذويهم عن وفاتهم، والقائمة كمَا نُشِرت في موقع (ليبَيا المُسْتقبل) جاءت كالتالي:
1 – يُوسف إدْريْس الحاسي
2 – سَالم إدْريْس الحاسي
3 – خالد مفتاح هاميل الفرجاني
4 – السّنوُسي مفتاح هاميل الفرجاني
5 – صَالح مفـتاح هاميل الفرجاني
6- عوض فرحات العبيدي
7 – فتحي عيسى القطعاني
8 – جمعـة غيث الفرجاني
9 – محمود يونس الدرسـي
10 – يونس صَالح المَهدِي
11- خـالد بـوراوي تربل
12 – عبْدالكريم عبْدالهادي علي
13 – عـزالدّين أحمَد عمران
14 – محَمّـد إبراهيم محَمّد
15 – نبيل عـلـي فـرج
16 – جبريل علـي الفيتوري
17 – خالد عبْدالرّازق رمضان
18 – عبْدالمنعم الزبير
19 – صَالح يُوسف ذياب
20 – توفيق عوض بن عـمران
21 – نورى الزرقاني
اليَوْم، نتوقف عند سِيْرَة الشهيد صـَالح ذيـاب الّذِي آمَنَ بالحريّة ورفض الاستبداد وقاومه، والّذِي سكنت في أعماقه كلّ معاني الشّهامة والمرؤة والنّخوة والوفاء والنّجدة والإيثار. نذكر مواقفه، ونروي تفاصيل حكايته لأن في حكايته قصّة وطن حكمه دكتاتور لمدة اثنين وأربعين عاماً.. قصّة شاب دفع حياته ثمناً لإنقاذ وطنه من حكم التسلط والاستبداد.
نروي سِيْرَته لأن في تفاصيلها شهادة على ما بلغة حكم القذّافي من ظلم وطغيان وقهر.. ولأنها قصّة عطاء لا ينتهي أو كمَا قال الأستاذ إبراهيم صهّد:..”.. العطاء من أجل الوطن يستمر بعد الموت.. بما تخلفه المواقف الشامخة من ذكرى وآثر.. ونهج ونبراس..”.
وأمس، كانت سِيْرَة صـَالح ذيـاب وكافة الرفاق الذين رحلوا عنا أيّام حكم الطاغية، الزاد والمعين الّذِي استمددنا منه الصمود والإصرار والسعي للإطاحة بنظام معمّر القذّافي. واليوم هي المحرك الّذِي يدفعنا لمقاومة أيّ انحراف عن المسار المتفق عليه.. والسند الّذِي يدفعنا إلى التمسك بمطلب الدستور الديمقراطي الّذِي يستوعب الإرث الدستوري ويؤسس عليه وفق مبدأ العمل التراكمي الّذِي يقوم عليه بناء الدول.
سيْرة صـَالح ذيـاب من الميلاد إلى الرحيل
ولد صَالح يُوسف ذياب في مدينة المرج يوم الأربعاء الموافق 26 أكتوبر / تشرين الأوَّل 1960م، وتمّ اعتقاله يوم الأربعاء الموافق 28 يونيه / حزيران 1995م مع مجموعة من الشباب، كان من بينهم: إدْريْس ماضي (تُوفي بعد اعتقاله بستة أشهر أثر إصابته بمرض السل داخل السجن)، بدر القلال، جمال توفيق الورفلي، مُصْطفى الشّريف (تُوفي بعد اعتقاله بستة أشهر أثر إصابته بمرض السل داخل السجن)، مُصْطفى الجهاني، الحسن المدني، عارف الكاديكي، عبْدالعاطي البرغثي.. وآخرون.
كان صَالح يُوسف ذياب خفيف الظل، رقيق القلب، عذب الكلام، سلس الحديث، ويتسم بصفات حميدة عدة، فكان حنوناً مخلصاً صادقاً في أعماله وأقواله. وكان كريماً من أسرة كريمة عُرف عنها الجود والكرم، فجده الحاج سَالم محَمّد ذياب (من أعيان المرج ومشايخها) كان كريماً سخياً ضربت به الأمثال. وعائلة (ذياب) جلها تقطن مدينة (المرج) التي تقع شرقي مدينة بّنْغازي بمسافة مائة (100) كم، أمّا السّيّد يُوسف ذياب والد الشهيد صَالح فقد اختار مدينة بّنْغازي مقراً لسكن أسرته.
كان جد والد الشهيد الحاج محَمّد سعد ذياب (تُوفي عَام 1982م) من أعيان مدينة المرج وشيوخها، وكان جد الشهيد الحاج سَالم محَمّد سعد ذياب (تُوفي عَام 1997م) من شخصيّات المرج المعروفة وكبار رجالاتها. وكان بيت الحاج سَالم ذياب (جد الشهيد) الكائن في الغربية بحي لـ(500) من أكرم ثلاثة بيوت عرفتها مدينة المرج، فكان بيته يتنافس مع بيتين من كبار بيوت المرج على أكرام ضيوف المدينة وزوارها، هما: بيت إمراجع الرَّخ، وبيت الصالحين القماطي. وكان الحاج سَالم ذياب يؤمن بأن إكرام الضيف من شيم العرب العظيمة وواجب مقدس لا مناص من الإتيان به في أيّ ساعة من ساعات اليوم نهاراً كانت أو ليلاً.
تنحدر عائلة (ذياب) في أصولها القبلية إلى قبيلة (العرفة) المنسوبة إلى البراغيث (برغوث بن جبريل أو جبرين كمَا يطلق الِلّيبيّون عليهم) والمنقسمة إلى فرعين رئيسين هما: السلاطنة (أولاد سلطان) المقيمة في الجزء الشّرقي من سهل المرج الخصيب أمـّا الفرع الثّاني، هم: الطرش (أولاد الأطرش) المقيم غرب المرج. وعائلة (ذياب) المنتسبة إلى قبيلة (العرفة) هم (طرش) ينحدرون من بيت (بوشحمة)، وقد كانت قبيلة (العرفة) بفرعيها (السلاطنة و الطرش) إبّان فترة الجهاد ضدَّ المستعمر الإيطالي منضوية تحت لواء شيخ المجاهدين (عُمر المختار) في الدور الّذِي عُرف آنذاك بدور (البراغيث).
وللسّيِّد سَالم ذياب (جد الشهيد) سبعة من الأبناء، وهم: جمعة (تُوفي يوم 16 مارس / آذار 2011م)، يُوسف، عبدالله، علي، إدْريْس، طاهر، سعد (تُوفي في السبعينيات)، فرج. وكان السّيّد جمعة أكبر أبناء الحاج سَالم يـُعد من كبار القوم في المرج وأبرز شخصيات المدينة، وقد أخذ عن والده صفة (الكرم) والحرص على مشاركة النَّاس في أفراحهم وأحزانهم، فاهتم بشئون النَّاس وراعى مصالحهم فاعتلى كرسي بلدية المرج، وترأس نادي المروج (تأسس النّادي فعلياً عام 1959م) في سنوات عزه وخاصّة في لعبتي كرة السّلة والطائرة. قدّم السّيّد جمعة (عمّ الشهيد) لمدينته كلّ ما بوسعه خصوصاً في الفترة التي تحمل فيها صديقه ورفيقه المُهندس بشير جوده مسئوليّة الزراعة في ليبَيا قبل إبعاده عن منصبه وإصابته بمرض السّرطان الذي لم يمهله طويلاً، فتوفي في 17 مارس / آذار 1983م.
أمّا عمّ الشهيد الثاني هُو المُهندس طيّار إدْريْس ذياب. كان من لاعبي (المروج) للكرة الطائرة في فترة الرائعين: عباس حويج، وعُمر طافور، ورفاقهم: فرج الرَّخ، عَلي الشوماني، فؤاد نبوس، سَالم الرمالي، يُوسف العرفي، أيْضاً لاعب آخر جاء إلى المرج من روسيا كان ماهراً متألقاً من طراز المحترفين الرفيع. تحصّل فريق (المروج) للكرة الطائرة على أربع بطولات متتالية على مستوى المنطقة الشرقيّة فِي الأعوام التالية: 66/ 1967م، 67/ 1968م، 68/ 1969م، 69/ 1970م.
وعمّ الشهيد الآخر هُو طاهر سَالم ذياب ممثل مدينة المرج في المجلس الوطنيّ الانتقالي الَّذِي تشكل في مدينة بّنْغازي يوم الأحد الموافق 27 فبراير / شباط 2011م بعد اندلاع ثورة 17 فبراير التي أطاحت بحكم العقيد معمّر القذّافي، والذي اُختير المُستشار مُصْطفى عبْدالجليل وزير العدل المنشق عن نظام القذّافي لرئاسته في الخامس من شهر مارس / آذار من عام 2011م.
وَالحَاصِل، تعرفت على صَالح يُوسف ذياب عام 1976م في الصّف الأوَّل للمرحلة الثّانويّة حيث جمعتنا مدرسة صلاح الدّين الأيوبي الثّانويّة بمدينة بّنْغازي، فكان من بين الزملاء الذين جمعني بهم فصل دراسي (Class) واحد لمدة ثلاث سنوات. كان صَالح على خلق عظيم، محبوباً بين أصدقاءهِ وزملائهِ في المدرسة.. مجتهداً في دروسهِ، ينصت لمعلميه ويحترمهم فأحبوه جميعاً دون استثناء. ربطتني به زمالة دراسة وصلة نسب، وصلة أخرى غطت مساحتها المنافسات الرياضيّة فكان صَالح كلما فاز فريق كرة السّلة لنادي (المروج) على فريق (الهلال) استغلها فرصة للسفترة (التعليقات الساخرة بين الأصدقاء) عليّ، مردداً على مسامعي الجملة التالية: “بالله عليك لا تزعل، وهذه الخسارة ضعْها في قائمة الخسائر التي سبقتها، وخذ هذه الخسارة بروح رياضيّة من الأفضل لك فأنا أعدك بمزيد من الخسائر مادام عبْدالكريم الرَّخ موجوداً بين صفوف الفريق”.
كانت سفترة صَالح ظريفة، وكان الحظ إلى جانبه ففريق المروج لكرة السّلة ظلّ طوال حقبة السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات متألقاً في الصدارة، ونال العديد من البطولات. وكان عبْدالكريم الرَّخ أفضل لاعبي كرة السّلة بنادي المروج، ومن ألمع اللاعبين الِلّـيبيّين آنذاك.
كان والد صَالح مقيماً في منطقة الفويهات الغربية، ويملك محلاً للأثاث في حي السيلس بمنطقة سيدي حسين، وبالقرب من المدينة الرياضيّة ببنغازي. ويذكر أن السّيِّد يُوسف انتقل إلى مدينة بّنْغازي في عَام 1963م بعد الزلزال الشهير الّذِي حلَّ بمدينة المرج، وعمل موظفاً بـ(إدارة الأملاك الحكوميّة). وتزوج من عائلة (هويدي) من مدينة درنة في 21 يونيه / حزيران 1957م، ورزقه الله سبحانه وتعالى ثلاث (3) بنات، وخمسة أولاد، والأولاد هم: صَالح، حسن، خالد، طارق، أسعد، وكان صَالح أكبر أولاده سناً. كان السّيّد يُوسف ذياب يعامل أبنائه معاملة الصديق لدرجة أنّي ظننت في بداية معرفتي بصالح أنّه الأخ الأكبر له وليس بأبيه!.
أحسن السّيّد يُوسف ذياب تربية أبنائه فهم على خلق عظيم ودرجة رفيعة من العلم منهم الطبيب والمُهـندس وما لا يقل عن هذا وذاك…
وَالشَّاهِد، كان حرياً بدولة نامية مثل بلادنا أن تكرم السّيّد يُوسف ذياب على ما فعل فلو كان من يحكمنا حريصاً على رقي البلاد وتقدمها لاحتُفِـى به لأنّه مثلُ يحتذى به فبمثله تصعد بلادنا على سلم التقدم درجات ودرجات، ولكن، دولة كان يدعي من يحكمها العلم والمعرفة ويعتقد بأنّه صاحب القول الفصل والحل النهائي الجذري لكل شيء، خطفت عمر أبنه البكر وعيَّشتـهُ وأفراد أسرته أكثر من (12) أثنى عشر عاماً في حزن وقلق وترقب وانتظار وصبر مر..
أَعُوْد بَعْد هَذا الاسْتِطْراد مُجدَّداً إلى صَالح، فقد تزوج في عام 1988م، من سيدة فاضلة لأب فاضل هُو: السّيّد حسين الغرياني، وعائلة (الغرياني) من العائلات المعروفة في بّنْغازي والمرج، وأحد أبناء عمّ زوجته هو الشهيد البطل عابد عبْدالسّلام الـغرياني الذي استشهد يوم 26 مايو / أيار 1996م. أنجب صَالح ثلاثة أطفال، وأبنه البكر سمّاه (يُوسف) على اسم والده. سكن بعد زواجه في شقة بعمارة مُصْطفى المطماطي الكائنة بشارع (الإستقلال) على الناصيّة المقابلة للمدينة الرياضيّة. وتحدث صلاح عبْدالعزيز أحد أصدقاء صَالح عن زواجه وسكنه في عمارة (المطماطي) في مقالة نشرها في موقع (صوت الطّليعة) فقال:..”.. بعد زواجه عام 1988م.. ألتقيته في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي شهد بناء دولة الإسْلام الأولى.. بدأ صَالح رحلته مع أوَّل أيـام حـياته الـزوجيّة.. كان أقرانه يبدؤون بروما وباريس ولندن.. أمـّا صَالح فأرادها نبوية المنطلق، ربانية الغاية.. كان يسكن في عمارة (المطماطي).. وحينما أراد أن يشتري له شقة بعدما رزقه المولى بيوسف.. طلب مني التوسط بينه وبين صاحب الشـقة الذي أعرفه مسبقاً.. وأشهد الله أنـّه كان سمحاً حتَّى في شرائه.. كان حياؤه يغلب عليه فيستحي أن يثقل على البائع.. لدرجةِ أنّـي أشفقت عليه مخافة أن يكون ذلك الحياء قد تجاوز الحد.. لكني أدركت أن الحياءَ لا يأتي إلاّ بخير.. لقد كنت استصغر نفسي أمام هذه الشخصيّة التي ما اغتابت أحداً قط أمامي.. ولا طعن في أحد..”.
تعرفت على صَالح وعمري 15 عاماً وعمره كان كذلك، واستمر لقائي به يتكرر على مدار ثلاث سنوات – سنوات الدّراسة للمرحلة الثّانويّة – أيّ كانت معرفتي بصالح الحقيقيّة في الفترة العمريّة ما بين 15 إلى 18 سنة، وفي هذا العمر لم أكن أنا ولا صالح نملك توجهات فكريّة أو نظرة سياسيّة أو نشاطات ثقافيّة شأننا في ذلك شأن أبناء جيلنا وكلّ من هُو في عمرنا آنذاك.
وكنت ألتقيه في منطقة (المقزحة) أحياناً حيث امتلك والدي مزرعة هُناك، وكانت لوالده مزرعة بالقرب من مزرعتنا. افترقت مع صَالح بعد دخولنا إلى الجامعة حيث دخلت لكلية (الإقتصاد) ببنغازي، وغادر صَالح بّنْغازي إلى البيضاء خريف عام 1979م لدراسة الهندسة الزراعيّة.
تخرج صَالح بين عامي 83/ 1984م مُهندساً زراعياً من جامعة البيضاء، وعمل بعد تخرجه في مجال تخصصه، وكانت آخر وظيفة شغلها قبل إعتقاله صيف 1995م مُهندساً زراعيا في مشروع الصوبات الزجاجيّة بالموقع الزراعي جنوب غرب بّنْغازي.
عُموماً، لم أر صالح في الفترة الواقعة ما بين خريف عام 1979م وربيع عام 1981م إلاّ مرتين أو ثلاثة، وانقطعت عني أخباره منذ خروجي من الوطن في أواخر مارس / آذار 1981م في مشوار غربة طالت سنواته منذئذ حتّى اندلاع ثورة فبراير المجيدة. التقيت أحد أقارب صَالح عام 1999م إن لم تخون الذّاكرة، وأذكر أنّه أخبرني بأن صَالح اعتقل في صيف 1995م. تأثرت كثيراً عند سماعي خبر إعتقاله، ومرت عليّ حينها صورة صَالح وشريط الذّكريات. وشاكست مخزون الذّاكرة، واسترجعت ملامح شخصيّة صَالح طالب المرحلة الثّانويّة وما ميزه عن باقي الزملاء آنذاك، وقلت أن صفات صَالح طالب الثّانوي كانت تنبئ بميلاد شخصيّة عامـّة، وصاحب موقف ورأى. اتصف صَالح في فترة دراستنا بالمرحلة الثّانويّة، بأربع صفات:
1 – نظافة المظهر، وأناقة الملبس.
2 – حسن التعامل مع الجميع.
3 – هدوء الطبع والطباع.
4 – عدم الحديث عن أحدٍ بسوء.
هذه الصفات مؤكداً كانت تحمل ورائها معاني عظيمة شكَّلت شخصيّة صَالح واختياراتـه فيما بعد، فالأولى تدل على شخصيّة مهتمة منضبطة في كلّ شيء.. والثّانية تُشير إلى شخصيّة منفتحة على الجميع وتستوعب الاختلاف.. والثّالثة تدل على شخصيّة متأملة متأنية صابرة.. والرّابعة تُشير إلى شخصيّة تحفظ الأسرار ولا تقبل إخراج الكلام عن مواضعه.
أمنت بتحليلي هذا، بعدما عرفت أن صَالح اجتهد في دراسته الجامعيّة فتخرج مُهندساً زراعياً بتقدير محترم، وبعد تخرجه أهتم بمجال تخصصه حتَّى صار لامعاً فيه فتدرج في سلم وظيفته درجات ودرجات. انضم إلى العمل الدعوي، وشارك في تأسيس حركة التجمع الإسلامي التي تأسست عَام 1991م. تزوج صالح، وبدأ حياته الزوجيّة بزيارة بيت الله الحرام. قرأ كتباً كثيرة، ودرس الفقه والتاريخ واللغة العربيّة، وحفظ أكثر من نصف القرآن الكريم. وأهتم بأوضاع بلاده وتطلع إلى تغييرها فعمل مع رفاقه من أجل هدف نبيل بغيّة إسعاد الإنسان الّذِي كرمه الله وأهانته سطوة الجبروت والطغيان.
وقال الشّيخ مُصْطفى الطرابلسي أحد مؤسسي حركة التجمع الإسلامي عنه ما يلي:..”.. انضم الشهيد للحركة الإسلاميّة العلمية التي بدأت عملها في الدعوة الإسلاميّة المنظمة عام 1981م وكان دخوله للحركة الدعوية عن طريق أحد أصدقائه من مدينة المرج وكان هو الآخر مُهندساً زراعياً. كان صَالح رحمة الله عليه متميزاً بالجدية في العمل الدعوي، والتعليم الشرعي، وحفظ خلال سنتين نصف القرآن تقريباً، ودرس في حلقات الجماعة اللغة العربيّة وعلم مصطلح الحديث والفقه المالكي وأصول الفقه وتاريخ الفقه والفرق، وأصبح مسؤولاً لمجموعة يشرف عليها ويعلمها وعندما أسست حركة التجمع الإسلامي عام 1991م كان من مؤسسيها وعضواً في المكتب التنفيذي للحركة وظل فيه حتَّى اعتقاله عام 1995م.
تميز الشهيد بالجدية والوقار والأدب الجم الّذِي يجعل كل من يعرفه يحترمه من أوّل لقاء. واتصف بالشجاعة الفائقة، وقوَّة الإرادة، وكان مقتله في مذبحة سجن بوسليم خسارة لليبَيا في أحد رجالها القلائل نسال الله تعالى أن يكتب له أجر الشهداء ومنازلهم آمين..”.
وَالحَاصِل، اعتقل صَالح ذياب يوم الأربعاء الموافق 28 يونيه / حزيران 1995م، ولم تعرف أسرته عنه شيئاً مُنذ ذلك اليوم، رغم محاولات والده الكثيرة والمتعددة لمعرفة مصير أبنه ومكان إعتقاله. طرق والد صَالح كلّ الأبواب، واتصل بكلّ من اعتقد أنّ بإمكانهِ أن يساعده ولكن مساعيه كلها باءت بالفشلِ إلى أن اتصل به في منتصف شهر يناير / كانون الثّاني 2008م اثنان من أفراد الأمن وأبلغاه بأن صالح بخير، وسيفرج عنه في القريب العاجل !. طلب الاثنان من والد صالح بعض المعلومات التي قالا أنّها تأتي كعمليّة إجرائيّة لعمليّة الإفراج، والتي ستشمل تسعين (90) معتقلاً سياسياً على حد قول أحدهما. انتظر والد صالح الإفراج عن أبنه، وبعد أن تمّت عمليّة الإفراج عن مجموعة (90) التسعين، لم يجد الأب – أبنه بين من أُفرج عنهم.
وحول هذه الحادثة، كتب السّيّد يُوسف ذياب في أبريل / نيسان 2008م رسالة وجهها إلى: (مؤسسة القذّافي للأعمال الخيريّة)، ونُشِرت الرسالة في موقع: (ليبَيا اليوم)‘ وجاء فيها..”.. تمّ الإفراج فعلاً عن مجموعة من السجناء، ولم يكن ابننا ضمنها، الأمر الذي أعاد فينا الإحباط الذي كنا نعاني بعد أن استبشرنا خيراً، وكانت فرحة رائعة لم تتم – بل تعرضنا لظروف إجتماعيّة ومعنويّة وماديّة قاسيّة لا تجبر بثمنِ…”.
عادت عناصر السّلطة الأمنيّة في 17 مارس/آذار 2009م إلى بيت السّيّد يُوسف ذياب، فطرقت الباب لتخبره هذه المرَّة لا بخروج أبنه من المعتقل في القريب العاجل إنّما بوفاته داخل المعتقل مُنذ صيف 1996م !!. قال والد الشهيد عن هذه الحادثة:..”.. استلمت الأسرة يوم 17 مارس/آذار 2009م شهادة وفاة مزورة جاء فيها أن الفقيد تُوفي يوم 25 يونيه / حزيران 1996م وتمّ بلاغ أسرته يوم 25 أبريل / نيسان 2008م بينما البلاغ الحقيقي والمأتم تمّ بالفعل يوم 17 مارس/آذار 2009م..”. (أنظر إلى الوثيقة المرفقة) وأضاف السّيِّد يُوسف أن السّلطة الغاشمة اعتقلت أبنه لأنه كان محباً لوطنه ولأمته ولدينه، ووصفه قائلاً:..”..كان صَالح مثالاً طيباً للصدق والالتزام الديني المعتدل، وعمل مع مجموعة من رفاقه الأفاضل من أجل بناء وطن آمن مستقر من خلال توعيّة الأمّة برسالتها الإسلاميّة القائمة على المحبة والرافضة للعنف..”.
وبعد أن سمع الأستاذ عبْدالوهاب الهلالى (7) خبر استشهاد صَالح كتب معزياً أهله ببعض الكلمات فقال:..”.. :..”.. كان صديقي وأخي صَالح رجلاً تقياً ورعاً محباً لوطنه ولأمته ولدينه، باراً بوالديه، محسناً الى جيرانه ذو ابتسامة لا تكاد تفارقه. وكان صَالح يعلم النَّاس الخير ولم يؤذى أحداً، وحريصاً على العلم والعمل. وكان صاحب صوتٍ رائعٍ ومؤثرٍ في قراءة القرآن الكريم، وكنت دائماً أصر أن يؤم بنا الصلاة لأنّى أحب أن أسمع القرآن من صوته الشجى..”.
وَالَّذِي حَدَّث، فتح السّيّد يُوسف ذياب بيته في بّنْغازي يوم تمّ إبلاغه باستشهاد ابنه، لاستقبال مئات المعزيين الذين جاءوه من كافة مدن وقرى المنطقة الشرقيّة بليبَيا. وأقيمت ليالي العزاء في بيته الكائن في الفويهات الغربيّة أمام مسجد المزداوي، وانهالت مقالات الأصدقاء عن الشهيد صَالح في المواقع الإلكترونيّة أهمها مقالة: (صَالح ذياب.. الّذِي عرفته) التي كتبها الأستاذ صلاح عبْدالعزيز من سويسرا. ونعت حركة التجمع الإسلامى صَالح ذياب ضمن مجموعة من أبنائها الذين سقطوا في مذبحة سجن بوسليم. وقد أصدر التجمع الإسلامى في العشرين من شهر رمضان من عام 1430 هجري بياناً جاء نصّه كمَا يلي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (23 الأحزاب)
بمزيد من الإيمان بقضاء الله وقدره تنعى حركة التجمع الإسلامى إلى الشّعب الِلّيبيّ وإلى كل العاملين للإسلام كوكبة من أبنائها الصادقين ورجالاتها المخلصين الذين قضوا نحبهم في سجون الطاغوت ثابتين على عهدهم صابرين على ظلم جلادهم.
فقد بُلِّغت أسر هؤلاء الشهداء – نحسبهم كذلك ولا نُزكيهم على الله – فى الفترة الماضيّة بأخبار وفاة ذويهم ضمن سلسلة الإخطارات التى تقوم بها أجهزة النظام الأمنيّة لعوائل ضحايا مجزرة سجن أبو سليم (يونيّه 1996م) دون إعطاء أيّة تفاصيل حول ملابسات الوفاة أو أماكن دفن أجسادهم الطاهرة بعد أن ظلت أسرهم تترقب أخبارهم لما يزيد عن عقد من الزمن.
والحركة لا تملك في هذا المصاب الجلل إلاّ أن تتقدم إلى أسر الشهداء بخالص العزاء سائلين المولى عز وجل أن يُعظِم لهم الأجر وأن يجمعهم بذويهم في مستقر رحمته ويسكنهم جميعاً فسيح جناته.
والشهداءُ هُم:
إدْريْس عبْدالعالى ماضي.. جمال توفيق الورفلي.. مُصْطفى على الجهاني.. موسى مفتاح المنفي.. مفتاح عبْدالمنعم العزوزي.. توفيق عوض بن عمران.. صَالح يُوسف ذياب.. سُليْمان الصّادِق المسماري.. جمال سَالم الفيتوري.. عارف بدر الكاديكي.. سُليْمان بوخريص الشبلى.. مُصْطفى محَمّد الشّريف.. فوزى عبْدالجليل.. بشير عُمر حمودة.. محَمّد شعيب الحاسي.. علاق أحمَد الطبولى.. عوض رجب بوشاقور.. على خليل الفطماني.. أحمَد ابراهيم اشليمبو.. عبْدالعاطى محمود البرغثي.. عُمر محَمّد التونسي.. صبرى الحداد.. عادل مُصْطفى الطرابلسي.. فتحى على اشقيفه.. وليد محَمّد لعيرج.. صلاح رمضان الأطرش.. حمد النمر.. فؤاد عمر القزَيّري.
وإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ
حركة التجمع الإسلامى
الخميس 20 رمضان 1430 هجري
الموافق 10 سبتمبر / أيّلول 2009م
وأخِيْراً، لم يشيع الأب جثمان ابنه، فالمجرم يعرض التعويض المادي على أهالي الضحايا ويرفض تسليم جاثمين الشهداء خوفاً من تداعيات هذه الجريمة النكراء على شخصه ونظام حكمه برمته.
وهذا ما تمّ بالفعل!.
صَالح ذياب.. الغائب الحاضر في ثورة 17 فبراير
أشعل أهالي ضحايا سجن بوسليم شرارة ثورة 17 فبراير / شباط 2011م، حينما قرروا الخروج إلى شوارع مدينة بّنْغازي – وقبل اندلاع الثورة بحوالي سنة تقريباً – كل يوم سبت من كل أسبوع للمطالبة بكشف الحقيقة، وتقديم الجناة إلى العدالة، واستعادة جثامين أبناءهم. هذا، وأن أهالي الضحايا كانوا قد واجهوا تهديدات نظام معمّر القذّافي وضغوطاته، ورفضوا عرض السّلطة بمنحهم التعويضات وتمسكوا بحقهم في معرفة ما جرى يوم 29 يونيه / حزيران 1996م (تاريخ المجزرة) في سجن بوسليم وأماكن دفن أبنائهم ومعاقبة المسؤولين. ويذكر أن السّلطة كانت قد عرضت على أهالي الضحايا آنذاك تعويضات تقدر بمبلغ (120) مائة وعشرين ألف دينار ليبي للأعزب أيّ ما يعادل (98 ألف دولار)، ومائة وثلاثين ألف دينار ليبي) للمتزوج أيّ ما يعادل (106 آلاف دولار)، مقابل عدم مقاضاة أجهزة الدولة في الدّاخل والخارج.
وَالحَاصِل، ازداد انزعاج نظام القذّافي من استمرار الاعتصام الأسبوعي لأهالي ضحايا سجن بوسليم بعد اندلاع الثورة التونسيّة ومن بعدها المصريّة، فقرر إسكات صوت أهالي الضحايا، فاعتقل الأستاذ فتحي تربل محامي عائلات الضحايا.
أدّى إعتقال المحامي فتحي تربل يوم 15 فبراير / شباط 2011م في مدينة بّنْغازي، الى اندلاع شرارة الثورة الِلّيبيةّ التي اجتاحت البلاد وأطاحت بنظام العقيد معمّر القذّافي.
خرجت أمهات وأرامل شهداء سجن بوسليم أمام مديرية الأمن في بّنْغازي مساء يوم الثلاثاء الموافق 15 فبراير / شباط 2011م احتجاجاً على طمس الحقيقة وعدم معاقبة الجاني، ومطالبات بإطلاق سراح المحامي فتحي تربل. رددت المتظاهرات هتافات: ( يا بّنْغازي ليش الذل نبوا في هل الليلة حل) و ( يا بّنْغازي وين رجالك، وين اللي علوك شأنك) و(نوضي، نوضي، يا بّنْغازي.. هاذ اليوم اللي فيه تراجي ). والهتاف الأخير هو الّذِي هز المدينة، وسرعان ما حرَّك أبناء الوطن فِي كل مكان. تحوّلت هذه الوقفة الاحتجاجية بسرعة البرق إلى ثورة عارمة حتَّى قبل مجيء يوم 17 فبراير / شباط موعد الانطلاق الّذِي خطط الِلّيبيّون له مُنذ فترة إحياءً لذكرى أحداث القنصلية الإيطاليّة التي وقعت فِي بّنْغازي فِي مثل نفس التاريخ من عام 2006م. وتمّ التأكيد على يوم 17 فبراير في مواقع النت ووسائل التواصل الإجتماعي بعد اندلاع الثورة التونسيّة ثمّ المصريّة حتَّى لا يكون الِلّيبيّون استثناءاً للربيع العَرَبيّ خصوصاً بعد أن أجبر التوانسة زين العابدين على الفرار في يوم 14 يناير / كانون الثاني 2011م، وأجبر المصريون حسنى مبارك على التنحي بعدما أعلن عُمر سُليْمان (1936م – 2012م) نائب الرئيس مساء يوم 11 فبراير / شباط 2011م تنحى مبارك عن الرئاسة وتولي القوَّات المسلحة (المجلس العسكري) مسؤوليّة إدارة شؤون مصر فِي المرحلة الانتقاليّة. سيطر ثوار ليبَيا في غضون أيّام على المنطقة الشرقيّة، وشكلوا يوم 27 فبراير / شباط 2011م كياناً يضم كافة المدن المحررة ويسعى لتحرير باقي المدن الِلّيبيّة من قبضة معمّر القذّافي تحت اسم (المجلس الوطنيّ الانتقالي) والّذِي أعلنوا عنه رسميّاً ظهر يوم السبت الموافق 5 مارس / آذار 2011م.
وفِي يوم 20 فبراير / شباط 2011م، اقتحم الثوار أكبر مركز لنظام معمّر القذّافي من حيث القوَّة والعتاد في مدينة بّنْغازي وأكبر معاقله الأمنيّة في الشّرق الِلّيبيّ، وهي (كتيبة الفضيل بوعُمر)، وقد سقط على أسوار هذه الكتيبة العشرات من المحتجين شهداء قبل اقتحامها. وبدأ سقوط كتيبة الفضيل بوعُمر الفعلي حينما رخص الشهيد البطل المَهْدِي محَمّد زيو الموت في عيون الشباب باندفاعه صوب البوابة الرَّئيسيّة للكتيبة وفجر سيارته ليقتحم الثوار الكتيبة، فاقتحموها بعد سقوط العشرات من الشهداء، وسيطروا عليها خلال ساعات، وحرّروا المدينة من نظام الطاغية الّذِي حكم البلاد أثنين وأربعين عاماً. أو كمَا قال خالد المهير الصحفي الِلّيبيّ:..”.. قرر الثائر المَهْدِي زيو حمل أسطوانات غاز بيته يوم 20 فبراير / شباط، وتوجه بها إلى أبواب الكتيبة، وعندما شاهد المتظاهرون أعمدة الدخان تتصاعد عند الباب الرئيسي، تأكدوا أنّه قد دخل إلى عقر دار القذّافي، فاقتحموا الكتيبة وحرّروا المدينة خلال ساعات..”.
وَالْحَق الَّذِي لا مِرَاء فِيْه، يُعد المَهْدِي زيو المولود في مدينة بّنْغازي عام 1962م، نقطة تحوّل في مسار ثورة 17 فبراير، والّذِي اعتبرته وسائل الإعلام العالميّة (نقطة تحول في مسار المعركة)، ووصفته الجزيرة نت في عنوان رئيسي لها بـ(الشهيد الّذِي حسم معركة بّنْغازي).
وَالْشَّاهِد، شارك أبني الشهيد صَالح (يُوسف ومحَمّد) مع أصدقائهم من الشباب الثائر في عمليّة اقتحام الكتيبة. وقال السّيِّد يُوسف ذياب (والد الشهيد) في مقالة نشرها في موقع: (ليبَيا المُسْتقبل) بتاريخ 7 يونيه / حزيران 2012م عن هذه المشاركة ما يلي:..”.. ساهم أبني الشهيد (يُوسف ومحَمّد) مع أصدقائهم من المجاهدين عند اقتحام كتيبة الفضيل المحصنة في مدينة بّنْغازي، دون سلاح يذكر لأن الأوَّل يُوسف بعد مشاركته في الاقتحام تمّ القبض عليه وضربه من أفراد الكتائب، وخلف الضرب آثاراَ على جسده وكاد أن يسقط ضحية. أمّا محَمّد فقد تمكن من الدخول إلى المبنى، وقفز من الدّور الثّاني بعد اشتعال النَّار في المبني فأصيب برضوض في رجله وكانت سلامته وسلامة يُوسف برعاية من الله وحفظه..”.
الخَاتِمَة
ثار الشّعب الِلّيبيّ فِي منتصف شهر فبراير / شباط من عام 2011م ضدَّ نظام القذّافي ليأخذ بثأر صَالح ذياب وثأر من سَبَقَه ولحقه من إخوانه في الدّاخل والخارج. استجاب الله لدعاء صَالح، وانتقم لروحه الطاهرة العفيفة، وتحوّلت وقفة أهالي ضحايا مذبحة سجن بوسليم الاحتجاجية أمام مديرية الأمن في بّنْغازي مساء يوم الثلاثاء الموافق 15 فبراير / شباط 2011م، إلى ثورة عارمة انتهت بمقتل معمّر القذّافي يوم 02 أكتوبر / تشرين الأوَّل 2011م، ثمّ الإعلان عن سقوط نظامه وتحرير البلاد من ظلمه وطغيانه يوم الأحد 26 ذو القعدة 1432 هجري الموافق 23 أكتوبر / تشرين الأوَّل 2011م.
والشَّاهِد، حين هتفت أمهات وأرامل شهداء سجن بوسليم من أمام مديرية الأمن في بّنْغازي، رأيت في وجوههن بشائر النَّصر، وفي أعينهن انهزام الخوف والإعلان عن بدء معركة الشّعب الحاسمة مع الجلاد وأعوانه. وشعرت أن هدف الإطاحة بنظام القذّافي اقترب تحقيقه، وهذا الأمل لم يفارقني لحظة طيلة سنوات غربتي المريرة. فقد ظل يقيني بلحظة الانتصار على نظام القذّافي راسخاً كالجبال الرواسي، رغم كل الاحباطات والتراجعات التي أحاطت بالعمل المعارض في الخارج خلال العقد الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، وظللت أري طوال سنوات حكمه لحظة الانتصار عليه رَأيَ العّين.
وَالَّذِي حَدَّث، لم استطع النوم ليلة يوم الثلاثاء 15 فبراير / شباط 2011م، بعد أن نقلت قناة الجزيرة هتاف أمهات وأرامل شهداء سجن بوسليم، وهن يرددن:
نوضي، نوضي، يا بّنْغازي *** هذا يوم أللي فيه تراجي
وفي اليوم التالي، انطلقت مع رفاقي المعارضين المقيمين في مصر، في تنظيم سلسلة من الاجتماعات والاتصالات من أجل دعم التحرّك الّذِي حَدَّث ثمّ مساندته بكل الوسائل المتاحة. ومُنذ يوم 20 فبراير، انشغلنا جميعاً في تنظيم المظاهرات المطالبة بمساندة الشعب الِلّيبيّ، والدَّاعية إلى رحيل معمّر القذّافي.. التواصل مع وسائل الإعلام المختلفة والمشاركة في البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة المتابعة ليوميات الثورة.. الإتصال بالحكومة ومؤسسات المجتمع المدني في مصر كذلك بالبعثات الدبلوماسيّة المعتمدة في جمهورية مصر العربيّة.. وضع الترتيبات اللوجستية اللازمة للعمل الإغاثي والمساعدات الطبية.
ومع نهاية شهر أبريل / نسيان 2011م، سافرت براً من القاهرة إلى مدينة بّنْغازي عاصمة الثورة وحاضنتها، ودخلت بّنْغازي بعد غياب طال لثلاثة عقود من الزمان، وزرت عمّي يُوسف ذياب في بيته حيث قطعت عهداً على نفسي بعد سماعي لخبر استشهاد صَالح، أن أزوره بمجرَّد عودتي إلى ليبَيا. استقبلني عمّي يُوسف بحفاوة بالغة عند بوابة داره العامرة بالضيوف والزوار، واستقبلته بالدموع والفرحة الغامرة بلقائه السعيد. والتقيته في بيته، وليبَيا تعيش ثورتها وثوارها يتقدمون لتحرير وسطها وغربها وجنوبها بعد أن حرروا المنطقة الشرقيّة بالكامل. ووجدت عمّي يُوسف سعيداً بالثورة ومشاركاً في صنع أحداثها كذلك أبني الشهيد (يُوسف ومحَمّد) فقد ساهما مع رفاقهما في اقتحام كتيبة الفضيل بوعمر المحصنة في مدينة بّنْغازي.
وأخِيْراً، ذهب معمّر القذّافي إلى مزبلة التّاريخ، وسُجل اسم صَالح ذياب في سجل الخالدين.
تقبل الله شهداء ثورة 17 فبراير المباركة.. وسَلامٌ على صَالح يوم وُلِدَ، ويوم رحل، ويوم يُبْعثُ حَيّا.
تَرَكْت ذَكَرَاً فِي بِلادِك *** وَالذِّكْر بَعْد الْمَوْت عُمْرُ (7)
شُكْري السنكي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق