جدليات 17 فبراير ودستور الاستقلال
د.عبدالرحمن هابيل
(وزير سابق فى حكومة عبدالرحيم الكيب ).
نشر الموضوع فى صحيفة برنيق
تنطوي ثورة 17 فبراير الليبية على جدلية خاصة تميزها عن
بقية ثورات الربيع العربي وربما عن كثير من الثورات في التاريخ، وذلك أنها
ليست مجرد ثورة من أجل الديموقراطية ضد الاستبداد والفساد كما هو الحال
مثلا في ثورتي تونس ومصر، بل هي أيضا ثورة ضد نظام” فوضوي”، فهي بهذا
المعنى ثورة من أجل الدولة. لقد زاد العهد الجماهيري في ليبيا على ثنائية
الاستبداد والفساد بضلع ثالث يكمل ثالوث ذلك العهد وهو ضلع الفوضى. لقد
كانت جماهيرية القذافي جماهيرية فوضوية بامتياز وكان فكره فوضويا، إن جاز
أن يكون للفوضى أو لمثله فكر، ولهذا كان يتبجح بأنه لم تكن لدينا حكومة ولم
يكن لدينا برلمان ولم يكن لدينا جيش، أي أنه لم يكن لدينا أي من مقوّمات
الدولة الحقيقية. ولعل أبلغ دليل على غياب الدولة في ليبيا قبل الثورة هو
اختلاف الوضع في ليبيا عن الوضع في تونس ومصر قبل ثورتيهما، إذ كان
الليبيون يلجؤون لتونس ومصر للعلاج، لانهيار الخدمات الصحية في ليبيا نتيجة
لانهيار الإدارة وانهيار الدولة، فلم يتكامل ثالوث الاستبداد والفساد
والفوضى مثلما تكامل بل وتكالب في الجماهيرية التعيسة.
فثورة السابع عشر من فبراير، من زاوية النظر المذكورة، ثورة
من أجل الدولة، فما كان يثير حنق الليبيين ليس مجرد الاستبداد والفساد بل
كذلك الفوضى وغياب الدولة. وهكذا فإن طريحة التشوف للدولة أنتجت نقيضتها
وهي الثورة، ولكنها ليست فقط كثورة تونس أو مصر، لأنها ثورة في وجه الفوضى.
وهنا يكمن الخطر، فهي مهددة بأن تغرق هي نفسها في خضم الفوضى الذي ولدت
فيه. فكيف السبيل إلى الجميعة أو التوليفة التي تؤلف وتزاوج بين الطريحة
والنقيضة؟ كيف السبيل إلى الدولة؟
أما جدلية 17 فبراير الكبرى، فهي أنها ليست فقط ثورة من أجل
الدولة، بل إنها ثورة مسلّحة، بحكم نفس ولادتها العسيرة من رحم الفوضى.
فقد ختم الطاغية كل ما أحدثه من استبداد وفساد وفوضى بأن واجه الانتفاضة،
التي كانت في أيامها الأولى سلمية، بما عرف عنه من حمق وعنف واضطر الشباب
المدنيين إلى التحول إلى مسلحين. فكأنه لم تكف إشكالية الثورة من أجل
الديمقراطية في مجتمع تغلب فيه الانتماءات العصبوية، أو متناقضة الثورة من
أجل الدولة بعد أربعة عقود من الفوضى، لكي يزيدنا السلاح ضغثا على إبّالة!
إن الثورة المسلحة لا تتحول مباشرة إلى الديمقراطية إلا في
فلتة من فلتات التاريخ لا يشترط لها أقل من وعي جماعي وآباء مؤسسين من طراز
الثورة الأمريكية، فما بالك في أمة تستشري فيها الانتماءات الفئوية
والعصبوية، مذهبية كانت أم جهوية أم قبلية، أم أحزابا غير ناضجة تخالها
قبائل في حرصها على مصالح أبناء الحزب دون الوطن، ناهيك عن الذوات
المتضخمة، والإِّنيًّات المنتفخة. إن النخبة المسلحة لا تلقي سلاحها في كل
زمان ومكان، فكيف يفرطون في “الشرعية الثورية” وفي “مكتسبات الثورة” وكثير
منهم لا يعلمون الدولة أو القانون و غيرها من المفاهيم المجردة إلا أماني و
أُشربوا في قلوبهم الشخصنة، فلا يرون سوى أسماء على مسميات في قبيلة أو
حزب تحل فيه الحزبية الإقصائية محل القبلية البدائية.
لقد تمثلت جدليات السابع عشر من فبراير، وهنا على نحو رائع،
في طريحة يوم السابع من يوليو 2012م، يوم خرج الشعب المتشوف للدولة يمتشق
بطاقات الانتخاب ويتمترس خلف صناديق الاقتراع في انتخابات المؤتمر الوطني
التي شهد المراقبون الأجانب بشفافيتها ونزاهتها في بلاد ليس بها شرطة أو
جيش! وفي نقيضة تلك الطريحة، في يوم الحادي والعشرين من سبتمبر من نفس
السنة، يوم “جمعة إنقاذ بنغازي”، خرج الشعب نفسه ليعلن رفضه للتشكيلات
المسلحة وليثبت أن انتظامه وانضباطه في طوابير الانتخابات لم يفقده روحه
الثائرة من أجل بناء دولة ليبيا الجديدة. إنه دون شك شعب جدير بالإعجاب حين
يجمع بين القدرة المتجددة على الثورة والشوق الذي لا ييأس للدولة.
ولكن السؤال ما زال دون جواب: متى يأزف أوان الجميعة بين
الطريحة والنقيضة وهي توليفة دولة القانون التي ما أزهقت عشرات الآلاف من
الأرواح إلا من أجلها؟
قد يقال إن الرهان يجب ان يكون على الشعب الليبي وحده، فكما
خرج يوم الانتخابات ويوم “جمعة إنقاذ بنغازي” فلا زال قادرا على الخروج
لافتكاك الدولة من براثن التشكيلات المسلحة. ولكنه يبقى شعبا أعزل، تخترق
صفوفه تجاذبات شتى، دون مؤسسات أو مرجعية سياسية، ففي مصر وتونس مثلا يوجد
الجيش الذي قد يتدخل في أسوأ الفروض ليمنع بالقوة تفكك البلاد، بينما لم
يترك اللانظام الذي ساد أربعة عقود في ليبيا لا مؤسسات مدنية ولا عسكرية.
إن الخلاص قد يكمن في الإستماع إلى الأصوات التي أصبحت ترتفع
من حين لآخر، وعلى نحو متزايد، تدعو إلى اعتماد دستورالاستقلال،أي دستور
1951، المعدل سنة 1963، بدلا من وضع دستور جديد. و لكن الإشكالية الكبرى في
هذه الدعوات أن أغلبها يشترط تعليق العمل بالمواد الخاصة بشكل الحكم في
دستور الاستقلال، أي المواد الخاصة بالملكية الدستورية.
إن ما لا يجب أن نغفل عنه هو أن دستورالاستقلال يتميز بآلية
“الانفجار الذاتي” إذا صح التعبير. فالمادة (197) منه تنص على أنه “لا يجوز
اقتراح تنقيح الأحكام الخاصة بشكل الحكم الملكي وبنظام وراثة العرش
وبالحكم النيابي وبمبادئ الحرية والمساواة التي يكفلها هذا الدستور”. فـ
“شكل الحكم الملكي” في دستورالاستقلال هو من المبادئ “فوق الدستورية” التي
إذا ما نزعت من الدستور فإنه يتفكك ويتلاشى تلقائيا، إذ تزول عنه صفة
الدستور الكل المتجانس المتماسك ويصبح مجرد مواد متفرقة يمكن لأي كان
اقتباس أي منها دون أن يمكنه أن يدعي أنه يعمل بدستورالاستقلال. فهذا
الدستور، من حيث مبادئه “فوق الدستورية”، تنطبق عليه قولة “خذه أو خلّه”!
فمن الممكن تعديل مواده الثانوية، ولكن لا يمكن المساس بمبادئه الأساسية،
وأولها شكل الحكم الملكي، وإلا أصبح جسدا لا روح فيه، وذلك حتى على فرض طرح
الجسد الميت للاستفتاء الشعبي لأنه لن يعيد إليه الحياة.
فإن كان ثمة تفكير في العودة إلى دستورالاستقلال، فإنها تشمل
بالضرورة استعادة النظام الملكي، الذي هو لحمة هذا الدستور وسداه، كما ينص
هو نفسه، وإن كان يمكن بالطبع تعديل المواد الثانوية لتتلاءم مع التجارب
العالمية المعاصرة في مضمار الملكية الدستورية. وهكذا فإن المسار الأضمن هو
استمرار العمل بالإعلان الدستوري الحالي حتى تقوم الهيئة التاسيسية المزمع
انتخابها بمراجعة دستور الاستقلال مع الاحتفاظ بهيكليته الملكية، و تعديل
ما عدا ذلك من مواده غير الأساسية بما يتفق وأحدث تجارب الملكية الدستورية،
التي يرمز الملك فيها للسيادة مجرد رمز دون أن يحكم٫ فهولا يملك فيها و لا
يحكم. و بعد ذلك التعديل يطرح الدستور للاستفتاء الشعبي، و ذلك، و نكرر،
إن كان ثمة تفكير جدي في العودة إالى دستور الاستقلال.
لقد ذكرنا أعلاه أن الشعب الليبي يظل أعزل إزاء الأخطار
المحدقة به دون مؤسسات أو مرجعية سياسية، فلعل الملكية، التي غيّبتها صروف
الدهر أربعين سنة ونيف، إذا عادت في ثوب عصري جديد هو الملكية الدستورية ،
قد تعيد لهذا الشعب مرجعيته السياسية وإحدى أهم مؤسساته المفقودة، و تصبح
من جديد موضع القسطاس بين شتى تجاذبات الجهوية و القبلية و الحزبية، و تغدو
كما كانت قبل انقلاب القذافي رمزا للوحدة الوطنية.
إن إعادة الإعتبار لدستور الاستقلال، بقدر ما هي عودة
للمرجعية المفقودة٫ فإنها استرجاع للشرعية السليبة و إعلان للعالم و
للتاريخ بأن انقلاب سبتمبر الذي ألغى هذا الدستور لم يكن شرعيا في يوم من
الايام. ان رفض العودة لهذا الدستور قد يعني،شعوريا أو لا شعوريا، اعترافا
بشرعية انقلاب سبتمبر 1969م.
إن البديل للملكية الدستورية، في مثل تجربتنا السياسية غير
الناضجة، هو إما نظام برلماني يقوم على التجاذب بين حزب حاكم يفتقر للشرعية
التوافقية و يظن أن شرعية الصندوق الانتخابية تخوله الحق في دكتاتورية
الأغلبية و معارضة يعوزها الانصاف و قد لا تهمها مصلحة الوطن بقدر ما قد
تهمها المكيدة و النكاية، و إما نظام رئاسي لا يمكن في مثل بلدنا إلا أن
يُـحسب فيه الرئيس على هوىً فئوي أو جنوح عُصبوي و يُتهم حقا و باطلا بشتى
الصغائر الفئوية و الكبائر الحزبية. و لننظر إلى جيراننا، و السعيد من اتعظ
بغيره. هذا كله إن أمهلنا الاحتقان الحالي حتى وقت الخيار بين هذا النظام
أو ذاك و لم تنحدر البلاد إلى صومال جديد يتربع على عرشه أمراء السلاح و
ملوك الحرب!
إن الحاجة الملحة للتفكير في استعادة الملكية الدستورية
يمليها هذا الوضع المحتقن في بلاد أحوج ما تكون إلى مرجعية سياسية ترتفع
فوق الحزبية و الجهوية و القبلية و تعود رمزا للاستقرار و الاستمرارية و
تستمد شرعيتها من دستور الاستقلال الذي لم تلغه أية إرادة شعبية. إن طول
العهد الهمجي الذي توقف فيه العمل بهذا الدستور ليس بحجة، و كما يقول
الفقهاء: إن الباطل لا يكون قديما. و لنا في إسبانيا عبرة، إذ عادت في
زماننا هذا، سنة 1975، إلى الملكية بعد أربع و أربعين سنة من الدكتاتورية،
أي نفس المدة التي تفصلنا اليوم عن تجربتنا الدستورية! بل إن الملكية في
إسبانيا لم تغد فقط عامل استقرار و رمزا للوحدة الوطنية و الاستمرارية، بل
كانت العامل الأساس في دمقرطة إسبانيا تحت رعايتها. كما لا يفوتنا أن أعرق
الديمقراطيات أغلبها ملكية دستورية، كما في بريطانيا و بلجيكا و هولندا و
السويد و الدانمارك و النرويج، و لا ننسى اليابان التي لازالت متشبثة
بنظامها الامبراطوري الدستوري، و جميع هذه الدول من أكثر دول العالم
استقرارا و رخاءً.
إن الملكية الدستورية خيار من الخيارات يجب أن يطرح للحوار
الوطني في هذه اللحظة الليبية الحرجة٫ و قد تثبت الأيام جدية هذا الطرح من
عدمها٫ و لكنه في المنعطف الذي نمر به هذه الأيام طرح توصي به التجربة
التاريخية و يرجحه رعب المشهد الحالي و بؤس الخيارات البديلة.
إن روح ثورة السابع عشر من فبراير تكمن في أنها ضد الفوضى وضد
امتهان كرامة الإنسان، فهي ثورة من أجل دولة القانون وحقوق الإنسان قبل كل
شيء. إن البعض الذي ما زال يمتطي صهوة الفوضى ولا يرى للثورة معنى سوى
استبدال وجوه بوجوه وطغيان بطغيان، إنما يريد لليبيا الجديدة أن تكون
جماهيرية ثانية يختفي منها القذافي وأبناؤه ولجانه الشعبية والثورية لكي
يمارس الطغيان فيها طغاة آخرون.
إن السلاح في يد كل من هبّ و دبّ لا يعني سوى جماهيرية
فوضوية جديدة في غياب الدولة التي كان الفكر الفوضوي الهمجي حريصا على
تغييبها والتي ما ثرنا إلا لاستعادتها.
إن البلاد تقف على مفترق تاريخي خطير،فأجراس نذر الدولة
الفاشلة تُــقرع على أشدّها و جميع مكونات الاصطفاف للفتنة جاهزة سواء كان
الاصطفاف قبليا أو جهويا٫ حتى لو اتّشح بمسوح الأيديولوجية٫ فهل نستفيق قبل
السيل العرم؟
قد يخسر التاريخ تجربة فريدة إذا انتهت ثورة 17 فبراير إلى فوضى، لأنها أصلا ضد الفوضى، لأنها ثورة من أجل الدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق