يحدثُ كثيراً
شهلا العُجيلي
حين دخلتُ المدينة للمرّة الأولى، كانت سماؤها تمطر أيضاً!
كان ذلك في أواخر شهر تشرين الأوّل، وكان إسفلت الشوارع قد شرب ماء وافياً من غير أن يغرق. حبّات المطر كبيرة، إلى درجة أنّ ارتطامها بالرأس أو الوجه كان موجعاً، وشجر الزيتون الواقف على جوانب الطرقات كلّها تقريباً، بلغ الصحو، وانتعش، وبانت نضارته. الأبنية البيضاء وقتها استفاقت من ثقل الغبار والجفاف، كلّ شيء كان يوحي بأنّها المطرة الأولى لذلك الموسم، مثل هذه المطرة تماماً، وكأنّ تاريخ المطر يكرّر نفسه، ولم تمرّ هذه السنوات الطوال كلّها على دخولي هذه المدينة التي يمكن أن أعترف بأنّني أحببتها حقّاً، ولم أرد أن أفارقها أبداً.
كان ذلك في أواخر شهر تشرين الأوّل، وكان إسفلت الشوارع قد شرب ماء وافياً من غير أن يغرق. حبّات المطر كبيرة، إلى درجة أنّ ارتطامها بالرأس أو الوجه كان موجعاً، وشجر الزيتون الواقف على جوانب الطرقات كلّها تقريباً، بلغ الصحو، وانتعش، وبانت نضارته. الأبنية البيضاء وقتها استفاقت من ثقل الغبار والجفاف، كلّ شيء كان يوحي بأنّها المطرة الأولى لذلك الموسم، مثل هذه المطرة تماماً، وكأنّ تاريخ المطر يكرّر نفسه، ولم تمرّ هذه السنوات الطوال كلّها على دخولي هذه المدينة التي يمكن أن أعترف بأنّني أحببتها حقّاً، ولم أرد أن أفارقها أبداً.
الغريب في الأمر أنّ المدن الثلاث التي وقعت في غرامها دخلتها تحت سماء ماطرة، ولم تضحك لي شمسها إلاّ في اليوم الثاني أو الثالث لوصولي، وكأنّها تعرف مسبقاً مدى حبّي لرائحة الوجد التي يبعثها التراب حين يلتقي بقطرات ماء السماء الأولى لقاء أوّل بعد غياب، بكلّ ما فيه من شهقات الفرح ودمعات العتاب.
أبي ـ رحمه الله- كان يحبّ المطر كحبّ أحدنا، وكان يحتفل بالمطرة الأولى بأن يصنع لنا بيديه شاياً مطيّباً بالهال لنتناوله مع قطع (الإنجليش كيك) التي يكون قد أحضرها خصّيصاً لهذه المناسبة، وكان يقول: «أجملوا في الدعاء فإنّ أبواب السماء مفتوحة!». أمّي كانت تقول (كناية عن مطر تشرين حيث موسم الرمّان):
«مطر الرمّان، يغسل القلب من جور الزمان، والبلاد من درن السلطان!».
أبي أيضاً رحل في يوم ماطر، فقال الأحبّة إنّ السماء تبكي عليه!
لم أتذمّر يوماً من مطر يبلّلني. أمشي تحته بلا مظلّة، أكتفي بقبّعة (الترانش كوت) الخفيف الذي أرتديه، ولم تضايقني قيادة السيّارة تحت المطر إطلاقاً، إذ أكون حذرة من الانزلاق في المطرة الأولى، وحين ترتوي الشوارع والعجلات من الماء، أعود إلى سرعتي المعتادة.
الرجل الذي أعدّه حبّ حياتي، التقيته أوّل مرّة مدّرئاً تحت وجيبة بيتونيّة لمقهى، منتظراً أن يهدأ المطر فيتابع سيره، وحين بدا أنّ الأمر سيطول، دخل المقهى حيث تعارفنا… لن أستعيد ذكرى الحكاية، فهي تثير في نفسي غصّة، إذ تركني، بعد قصّة حبّ عاصفة، من غير أن يودّعني أو يقلّني إلى محطّة القطار! تركني هكذا أمشي في الشارع وحدي في مدينة غريبة أحببتها كثيراً، وخرجت منها بجراح كثيرة، وحينما دخلتها كانت تمطر أيضاً، وكان المطر يضرب بحرها الجميل، فيستقبل البحر تلك الضربات بسماحة الكرام.
السيّارة التي تقلّني بدأت تثقل في حركتها إذ رحنا ندخل دروباً متعرّجة أودّع عندها هذه المدينة المطمئنّة التي سأترك فيها أيّاماً حلوة وأيّاماً مرّة، هكذا بالتساوي الذي يجعلني أقول إنّها كانت معي مدينة عادلة، ما دمنا قبلنا بقسمة النصف، لكنّ المدن العادلة لا تعيش في الذاكرة طويلاً، الذاكرة تحبّ الطعم اللاّذع! مازالت السماء تسحّ، والعجلات تتوقّف، لقد أبت المدينة إلاّ أن تودّعني مثلما استقبلتني اوّل مرّة. أقدام الرجال من حولي بدأت تغوص في التراب الذي أوحل سريعاً، وبصعوبة ساروا بي إلى المكان الذي أعدّوه منذ ساعات الصباح الأولى، حيث الحفرة الصغيرة التي ستوارى فيها جثّتي.
كاتبة سورية
شهلا العُجيلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق