المثقف، والسلطة، والمجتمع
فاطمة الشيدي
تعتبر الثقافة في عالمنا العربي حالة خارجية، أو شأنا شخصيا، يخص
الإنسان وحده، وكثيرا ما تعتبر مهنة من لا مهنة له، وقد يعتبرها الكثير من
أفراد المجتمع رؤية خارجية، وبعيدة كل البعد عن حاجة الإنسان، وأولوياته
الطبيعية الأكثر الحاحا واحتياجا كالأمان والرخاء المادي بما يحققه من
مستلزمات الحياة والمتعة والترفيه. بل قد تصبح الثقافة مشكلة أحيانا كثيرة،
ينتقدها الإنسان ويعتبرها مصدر زعزعة للهدوء والسلام المجتمعي، الذي يفضله
ويركن إليه، وخاصة مع المثقف الموضوعي أو المهتم بالشأن العام، والذاهب في
النقد، والمسهم في حفر مستويات الوعي، وصناعة الرؤى المستقبلية للمجتمع
والإنسان.
ولذا فالثقافة في مجتمعاتنا العربية لا تعدو كونها حالة مكملة للمشهد العام، أو مجمّلة للصورة الكبرى للدولة والمؤسسات، أو ـ في أحسن مستوياتها ـ حالة إعلامية وترفيهية للبعض، غير مؤثرة وفاعلة في مصير الإنسان، وبعيدة عنه، وهو المشغول غالبا بقوته اليومي، وبالسطحي من الحياة والاهتمامات ومستوى التفكير، ولذا فهي محصورة في مجموعة محددة تمارس الفعل ذاته، وتوليه اهتمامها.
ولعل ذلك البعد والإقصاء المجتمعي للثقافة يعود، في العميق والبعيد من التحليل، لخوف كل من السلطتين السياسية والدينية من فعل الثقافة، القائم أصلا على التنوير وإشعال الوعي، وبث روح المساءلة والنقد في كل المسلمات، ولجوءهما إلى تهميش دور المثقف، وتحجيم مسؤوليته في التغيير المجتمعي، وربما تشويه صورته وبث روح الذعر منه في المجتمع، بتوصيفه بكل المسميات الشيطانية التي تجعل منه مصدرا للرعب والخوف والكره؛ كالكفر، والعلمانية وغيرها من مسميات جاهزة، وغير مدركة أو مفككة في الوعي الجمعي العام.
ومع كل هذا البعد والإقصاء للثقافة والمثقف، لم تركن السلطة (السياسية والدينية) للأمان من المثقف الذي ظل يحاول التغيير، ويحاور الجمع بإصرار وصبر وثقة؛ لفتح كوة نور في جدار الظلام، وبث القليل من المساءلة في المسلمات والسائد، بما يملك من أدوات شحيحة كالكلمة واللحن والريشة وغيرها، ولم تغض الطرف عنه، وتتركه في شأنه يمارس دوره التنويري والثقافي بهدوء وصبر أحيانا، وبإحباط ويأس أحيانا أخرى، وبثورة ورفض في بعض الأحيان، بل وضعته تحت عينها، تراقبه وترصد تحركاته سرا وعلانية. والمثقف يدرك ذلك جيدا، والمجتمع أيضا، ورغم هذه الحالة المضطربة بين السلطة والمثقف على مر العصور، إلا أن ذلك لم يغير الكثير في صورته «المقلقلة» لدى المجتمع، لتجعله أكثر قربا منها، وتواصلا معها، لكونه يتحرك كمسيح يحمل عنه آلام الصلب، وفعل المحبة، والإيمان بالتغيير.
صورة المثقف تتعدد وتتباين، من مثقف السلطة السياسية، المتسلق، الطامح في الهدايا والهبات والجاهز للتلميع والتجميل، والنفخ والمسح، ومثقف السلطة الدينية الذي يقدّم الثقافة على أنها قيمة محصورة في الدين والنص المقدس فقط، ورفض كل ما هو خارجها، لأنه يؤمن أن الثقافة التي يقدمها هي ثقافة إلهية، وكل ما هو خارجها أقل شأنا منها، وكل مساءلة لها ممنوعة، وكل حوار حولها كفر، أو عجز مسبق عن مطاولة الكثير والكبير الذي يقدمه النص.
وهناك المثقف المأزوم، المحبط واليائس من التغيير، والذي ينظر بدونية واستخفاف وتجهيل للمجتمع، وبرفعة وغرور كاذبين لذاته ولغته، ويركن لبرج عاجي يكتب منه في معزل تام عن المجتمع والحياة، وقضايا الإنسان المتجددة، وبعيدا جدا عن دوره المفترض في التغيير والتثقيف والبناء.
وهناك المثقف المهزوم، الذي لا يجيد تفكيك وتحليل الأمور، أو وضعها في نصابها لعقد نفسية أو اجتماعية طفولية أو ماضوية، ولحالة الغياب التي يعيشها غالبا، فلا يكتب إلا رازحا تحت وطأة ما يسعفه على ذلك التغييب المقصود عن العالم والإنسان، ليصبح مسيحا جديدا، يعاني من خذلان البشر، وقسوة الحياة، واضعا نفسه في موضع المعاناة القصوى، وحيدا ضئيلا أمام سهام الجميع من مجتمع وسلطة ودين، وبذلك يعيش سلطة الوهم، ومشنقة الكتابة، ومأساة الإنسان، وعدمية الوجود.
فهذه الصور وغيرها بما تحمله من حضور بوهيمي أو متمرد أو متعال للمثقف، شكّلت صورة مرتبكة له في عقلية إنسان الشارع، يرفضها المجتمع والإنسان الذي تعتركه الحياة بكل معاناتها وظروفها اليومية ساعة بساعة. وهكذا توسعت الفجوة بين الثقافة والمجتمع، ومدت السلطة، بما يساعدها على خلق تلك الصورة المشوهة له بين الناس، وتوسيع الهوة بينه وبين مجتمعه.
وإن كانت الصور السابقة هي نتاج ضمني للقمع الذي عانى منه الإنسان بكل أطيافه وأحواله من السلطة (بكل أشكالها التاريخية) ردحا من الزمن، إلا أن على المثقف الحقيقي والذي يحمل فكرة التنوير والتغيير محاولة فهم ذاته أولا، وتحديد أهدافه وغاياته من فعل الثقافة الذي يمارسه ثانيا. ومن ثم العمل بإصرار وهدوء، وبإيمان بفعل التغيير والتنوير الذي سيؤتي ثماره يوما، مهما امتد الزمن، ليقنع المجتمع «بوسائله القليلة، مقابل إغراءات السلطة الكبيرة، وإملاءاتها الضاغطة» بما يريد أن يقدم له من توسيع مدركات، وصناعة وعي؛ ليستشعر الجمال المحيط به في الداخل والخارج، ويتحسس القيم الإنسانية الرفيعة كالحق والمساواة ويعيشها، ليكون لائقا بإنسانيته وعبوره القصير لهذه الأرض، دون أن يضع نفسه (أي المثقف) في مواجهة كلية مع السلطة بكل مستوياتها، أو في مقارنة بها، بل في حلم بعيد، إقناع هذه السلطة بأن دوره في التغيير والتنوير، ومحاربة الفساد، وخلق وعي جمعي يمكّن الناس من الحياة بحرية وعدالة، وأمان ورخاء، دورٌ موازٍ لدورها، يقوّم ولا يهدم، ويعترض فلا ينفي.
كاتبة عمانية
فاطمة الشيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق