ومضات مضيئة في ظلام الواقع
الأستاذ/ محمد عبدالله حنيش
14/12/2015
تأثُّرا بواقع بلادنا الحالي ومجريات أمورها، فقد كتب وتكلم الكل حول واقعها: مقالة أو بحثا أو تحليلا أو حتى شعرا. ولكن
ـ في ضغوط الانفعالات وزحمة الأحداث ـ نسينا أو أغفلنا أن نتناول أحداثا
إيجابية، وظواهرا تفتّقت منها إضاءات نيّرة وسط ظلام الأحداث، ومهما كانت
دوائر ضوئها في اتساعها أو محدوديتها، إلا أنها جديرة بأن نقدرها ونثنّي
عليها ونحني لها الرؤوس:
أولها: أن بلادنا تعيش على ما يقارب اليوم خمس سنوات بدون سلطة أو قانون سارٍ، وإن وجد فلا تطبيق له نظرا لانعدام من بيده قدرة تنفيذه. لكن
الناس بأصالة موروثات العرف سائرون في تعايش عام، به تتم المصاهرة، وتستمر
وتُراعى أصول علاقة الجوار وحقوقها، وتجري أمور المتاجرة والتعامل اليومي
بين التاجر والمستهلك في مجمل الحال بضوابطها ومصداقيتها، وتسير المركبات
دون وسائل تنظيمية أو مراقبة مرورية (رغم انفلات بعض المتهورين أحيانا من
شبابنا أحيانا في حوادث فردية) ولكنها حالات خاصة، وليست هي القاعدة في
المجتمع. وبالرغم من أن البلاد في حالة حرب داخلية، مع
حوادث إطلاق النار بين الفرقاء المتحاربين في بعض المدن ، فإن الناس في
بيوتهم ومع جيرانهم في حياتهم الخاصة آمنين، ويرتادون المساجد وينتظرون
أوان الصلوات، وتتم المصاهرات وتقام الأعراس، وتباع العقارات وتشترى،
ويسافرون من مكان لآخر، ولا زالوا يسألون عن الغائب، ويعودون المريض
ويواسون المصاب... الخ أسس أعرافنا وتقاليدنا التي تربينا عليها. لو
تفحصنا هذا الشأن بروية وإنصاف، لاستنتجنا أن مجتمعنا رغم ظروف الشدة
والمعاناة وغياب الدولة، استطاع أن يحافظ على أسس موروث القيم، مع العلم
أنه في الدول المتحضرة (أمريكا مثلا) عندما ينقطع التيار الكهربائي ساعتين
فقط فإن حالات السطو والسرقة بالإكراه تقع بآلاف الحالات. لذا
فإن أي باحث منصف لابد أن يشيد بأن مجتمعنا في جزء من هذا الكون الزاخر
بالأحداث استطاع أن يسير حياته المدنية بدون دولة ولمدة خمس سنوات حتى
اليوم.
ثانيا: لا شك أن التاريخ قد سجل للمستشار مصطفى محمد
عبدالجليل ومضة ضوء منيرة في موقف تاريخي و ديمقراطي لا ينسى، عندما تنحى
طوعا عن موقعه، وسلم الأمانة إلى المؤتمر المنتخب من قبل الشعب في أول جلسة
انعقاد له، وأعلن استعداده للمساءلة عن فترة عمله بقيادة المجلس الانتقالي
المؤقت، وفوق ذلك فقد تقدم بطلب إحالته على التقاعد وترك مهنته القضائية،
عائدا لصفوف الشعب مواطنا عاديا.
ثالثا: إن احترام الدكتور محمد يوسف المقريف رئيس المؤتمر
المنتخب كأول فرد ينصاع لأحكام قانون العزل السياسي (رغم ما أثير حول ذلك
القانون من جدل) لجدير بأن يذكر له كميزة أخرى تضاف إلى تاريخ نضاله،
ويسجل كومضة ضوء في ظلام النفق.
رابعا: إن قرار الأستاذ حسن الأمين باستقالته من عضوية
المؤتمر الوطني، احتجاجا على كيفية تعاطيه مع الأمور، وإعلان تبرُّئه من
الممارسات الخاطئة ومما يدور بأروقة المؤتمر وما تتناوله بنود اعماله لهو
من المواقف النبيلة والشجاعة والمضيئة التي يسجلها التاريخ للمخلصين من
أبناء الوطن مثل السيد حسن الأمين.
خامسا: إن البعض من الوزراء في الحكومة الانتقالية المؤقتة
عملوا بدون مرتبات، وتنازلوا عنها بأنفسهم طائعين طيلة فترة عملهم حتى
استقالة الحكومة وانسحبوا بهدوء غير معروفين.
سادسا: هناك من اغتيلوا وهم ينقلون المال العام بين المصارف حريصين وحارسين عليه ودفعوا ثمن حرصهم تضحية بأرواحهم.
هذه الومضات... عندما نستذكرها تشعرنا بالرضى ولو جزئيا عن
أنفسنا، وتعيد الثقة فينا وبأهلنا وبلادنا وديارنا مهما زاد الظلام من
حولنا... بل إنه من النادر، إن لم تكن هي الأولى في التاريخ (لا أعلم) أن
تختفي الدولة ويتعايش الناس بدونها، مستلهمين من المعتقدات ومن ذات الأخلاق
والقيم ما تسير بهم حياتهم رغم هزّ الأحداث العنيفة من حولهم وويلات
الحروب وفقدان البنين والأقارب.
حقيقة... يجب أن نقدر من أنار ومضات الضوء وسط الظلام لتبعث فينا الأمل وقت حاجتنا إليه... فلا تحزن يا وطني... لا يزال فيك أبناء ليسوا عاقين... لا يزال من أبنائك من يحمل الومضات المضيئة... ولله الحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق