الأقفاص التي تقتل الإبداع
بروين حبيب
لا تكتب نصًّا وأنت تفكّر في ردة فعل الآخرين… لا تكتب رواية وأنت تتخيل
أن أخاك أو أختك أو أباك أو غيرهم سيقرأون نصّك وينتقدونك بشدة .
هذه أول قاعدة أعطيها للمواهب، وللكتاب الذين يكتبون ويتوقفون عند عتبة الصفحات الأولى ثم ينطفئون. لا شيء يقتل الإلهام غير الرّقيب الذي نزرعه في داخلنا ونحن نكتب. لا شيء يدمّرنا سوى محاولتنا إرضاء الآخرين، وإهداء نجاحاتنا لهم، لدرجة أننا نُختَصَر في ما بعد إلى مجرّد نياشين شخصية لهم. ننمحي تماما لنتحوّل إلى امتداد لهم، نكتب لهم ولأجلهم، ونلغي أنفسنا تماما.
بعضنا ينتهي منذ أول كتاب، لأنه أضاع نفسه بين ما يريد وبين ما يريده من حوله. يصبح فجأة سجينا في دائرة ضيقة من الأقارب والمعارف، الذين يجندون أنفسهم لتوجيهه، أو بالأحرى إلى قتله ببطء.
الكتابة فعل طليق، لا يمكن ممارسته بدون أن يمتلئ الشخص بكل مشاعر الحرية. وكما قال أغرب شاعر أنجبته فرنسا، فرانسوا فيللون «من يموت عليه أن يقول كل شيء».
فلو أن الخلود صفة بشرية لكان الأمر مختلفا، ولو أن الحياة نفسها قائمة على أبدية مطلقة لكان التعامل معها يتطلب الكثير من الحذر، لكن الحياة كلها قائمة على إطلاق سراح الأرواح والأجساد من مكان ما، والمخيلات والبناء والإعمار والمضي قدما نحو مصير ما.
من منظور آخر، تأتينا مقولة كاتب القصة الشهيرة «الأمير الصغير» أنطوان دي سانت أوكزوبيري: «لا أعرف إلا نوعا واحدا من الحرية وهو حرية العقل»، كقاعدة لا بديل لها للتحرر… فقد خرجت الحضارات كلها من العقول الحرة، والحضارات العريقة لا يمكن معرفتها سوى ببصمة واحدة هي الفنون، بل يمكننا قياس مدى حرية شعب بمقدار الفنون التي يزخر بها، وتزخر بها بلدانه… ثم في ما بعد لن نفهم هل الفن هو الذي يطلق سراح العقول، أم أن العقول المتحررة هي التي تطلق الفن من دون حدود، لأن العملية تصبح مثل حقل من الأشجار المثمرة التي تتخللها خلية نحل يجود بأجود أنواع العسل، جودة كليهما مرتبطة بالآخر.
حتى سيغموند فرويد قال: «بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلا من إلقاء حجر»، وهذا يحيلنا إلى أن مقياس الحضارات هو صدقا مدى انتعاش الفنون التعبيرية لدى أمة ما.
بحكم مهنتي، وحواراتي المطوّلة مع روائيين كبار، عرب وغير عرب… وبحكم قراءاتي، وسفراتي الكثيرة التي جعلتني أحتك خلالها بكتاب وروائيين من كل العالم، عرفت حقيقة مشتركة لنجاح أي نص، وهي حين يعكس دواخل النفس، ويكتب مشاعرنا كما لو أنّه استند إلى حقائق بُحنا بها سرا لكاتبه. وكلما كان متّسع الحرية في النص كبيرا، لامس أوجاعنا حيثما كنا، وأخذ النص صبغة إنسانية، وأحبه الناس في كل مكان.
وهذا الكلام يقودنا مرة أخرى إلى مفهوم العالمية، هل هي الكتابة بلغة الآخر؟ أو الكتابة على مقاسات دور النشر الغربية؟ أم الإغراق في المحلية؟ والحقيقة أن كل هذه المفاهيم تقتل الأدب، لأنه لا يكتب تحت مظلّة تحجب عنه الشمس. الأدب الحقيقي هو النص الذي يُكتب في العراء، بعيدا عن الشروط التي تحوّل الكاتب إلى تلميذ يقوم بواجب الإملاء.
منذ طفولتي وأنا قارئة نهمة للأدب، وقد استطعت منذ بواكير قراءاتي أن أصنف الكتب التي أقرأُها إلى ما هو جيد، وما هو سيئ، وما هو رائع، وما هو مخيب للآمال، وما هو كاللاشيء، نقرأه فلا يترك أي أثر فينا.
بالطبع يحدث كثيرا ألا نتم قراءة كتب نظنها جيدة، ولكنّها تطفئ حماستنا منذ الصفحات الأولى، إمّا بسبب اللغة أو بسبب الشخصيات الباهتة والبناء الروائي المهلهل، و»خطب الوعظ» التي يبالغ بعض الكُتّاب في جعلها واجهة لأنفسهم أكثر مما هي واجهة لنتاجهم.
وهذا هو الفخ الذي أردت شرحه منذ البداية، فما يقتل رغبة القارئ لإتمام كتاب، هو نفسه العامل الأهمّ الذي يجعل الكاتب يبدأ نصه ثم تفتر رغبته وقواه لإتمامه. أمّا أولئك الذين يكتبون بسيولة غريبة، ويعتمدون طرقا أخرى للتعبير عن أفكارهم، والتّرويج لأنفسهم، فأرى جليًّا أن فعل الكتابة كإبداع ليس من اختصاصهم، إنّهم شبيهون بالتلميذ النجيب الذي يحفظ دروسه جيدا، ويحصل على علامات ممتازة في الامتحانات، لكنه خارج المنهج الدراسي لا يمكنه أن يضيف شيئا لإجابته، لا يمكنه حتى أن يعتمد على نفسه في حياته خارج أسوار المدرسة، سيحتاج دوما إلى من يوجهه، ويملي عليه خطوات حياته.
كثيرا ما عرفنا هذا النوع من الناس، وكنا نصاب بصدمة لأنّهم ممتازون في الدراسة، فاشلون في الحياة، والمشكلة لديهم ليست وليدة شخصياتهم، بل إن من حولهم صنعوا ذلك النموذج الذي لم يعتمد على نفسه قط، ولم يذق طعم الخسارة في صغره ليتدرب على طرق من اختراعه الشخصي للتغلب عليها. بالمختصر لقد كان هذا النوع تماما كطيور الأقفاص التي تجهل تماما أن العالم واسع خارج القضبان وأنها بإمكانها أن تحلق عاليا.
أعطي الأمثلة، لأن الأمر متعب للكثيرين، حتى بالنسبة لكتاب كبار لهم شهرة واسعة، وأسماء لها «طنّة ورنّة» في عالم الأدب. فبعد الشهرة مباشرة يصبح فعل الكتابة عبئا ثقيلا على صاحبه، خوفا من النّقاد والقرّاء، الذين تسنت لهم وسائل تواصل اجتماعية كثيرة، وقد تبلغ انتقاداتهم مستوى الشتم اللاذع للكاتب ولعائلته ولأقاربه وسلالته أبا عن جد…
شيء يبدو جديدا في عالمنا العربي، ولكنّه أصبح ينتشر كالوباء، ولعلّ من أخطر ما وصلنا إليه أن يتهم الكاتب بالإلحاد، في مجتمع مفخخ بكل أنواع التطرف، إذ يصبح الكاتب عرضة للقتل أو الاعتداء عليه وعلى عائلته، فيصاب بـ»بلوك» يمنعه من الكتابة، مع أنّه يحاول أن يبين لمن حوله أنه شجاع وأنه لا يخاف من التهديد، لكن قضبان التهديد والوعيد تكون قد سيّجت ملكته الإبداعية متحدية كل نواياه الحسنة، ويبدأ سوس العجز ينخر مخيلته وقد يموت إبداعيا إن لم ينقذ نفسه ويخرج من دائرة ذلك السجن اللعين.
لقد أردت أن أقدم «المفتاح السري» الذي يعتمد عليه كتاب لا يعيشون عذابات غياب التعبير لديهم، أردت أن أهمس برفق لمن يعيش جحيم «عدم القدرة على الإبداع»، أن الموضوع سهل، وليس إفلاسا، أو نهاية ، أو موتا أو كما يردد البعض ألا فائدة لوجودهم، ولا فائدة من الكتابة …
فكل هذه الحالات مرتبطة بوضع واحد، وهو أن الكاتب وضع في سجن ما، ووحده هذا الكاتب يعرف من سجنه، وما الذي يبث الخوف في أعماقه حتى جفّ قلمه…
أقول كل هذا وأضيف أن «فيسبوك وتويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي، سجون حقيقية للكتاب والمبدعين، فالكاتب الذي كان يفرغ ثرثرته في كتاب، أصبح يفرغها في مواقع التواصل الاجتماعي، ويقرأ ردة الفعل عمّا كتبه مباشرة، وبعض ردات الفعل هذه « قاتلة» …
تخلصوا من سجونكم إذن… وقولوا ما تريدون في كتاب.
وللحديث بقية إن شاء الله.
كاتبة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق