تدق
طبول الانتصارات في الموصل، هذه الايام، بايقاعات تتصاعد، حسب اهواء
«المنتصرين». هل هي أهواء أم اوهام ؟ ومن هم حملة راية «النصر»؟ أم ان
للنصر، كما يشاع، آباء عدة والهزيمة بلا أب؟
الجهات التي تحتل استديوهات
البث المباشر على مدى 24 ساعة، يوميا، لقرع طبول عملية «التحرير» متشرذمة،
على الرغم من ادعائها ان العدو واحد وهمها واحد، وهو «محاربة الارهاب». كل
جهة تدعي انها الأحق بكعكة النصر، اي ارض محافظة نينوى، بسكانها الذين
يزيدون على المليونين، وتاريخها الحضاري، باعتبارها أرضا متنازعا عليها.
من
ينظر إلى توزيع الخارطة بعد «النصر»، سيصيبه الاعياء وهو يحاول فهم عدد
الجهات ومصلحتها المتداخلة، فيما بينها، وضد بعضها البعض، ومع أو ضد «
الدولة الاسلامية»، أحيانا. يصاب الناظر، ايضا، بالذهول جراء حجم الفساد
الداخلي، وصفقات المقايضات الخارجية، ونجاح المحتل في خلق طبقة من ساسة،
يفتخرون بولائهم لقوى اقليمية ودولية، اذا كانوا من الاحزاب الطائفية
والعرقية، أو لمن يدعمهم ماديا، اذا كانوا من تيارات علمانية تشتري وتبيع
«الديمقراطية».
يتناثر على الخارطة، اعضاء الحكومة الفاشلة، قادة
الاحزاب الطائفية والعرقية براياتها السنية والشيعية والكردية والتركمانية
والايزيدية والآشورية، وان بدرجات متفاوتة. معها، ميليشيات «الحشد الوطني»
والعشائر السنية التي تدعي الدفاع عن السنة (من انتخبها؟) بعد ان «استبسل»
عدد منها، دفاعا عن قوات الاحتلال الامريكي باسم الصحوات. هناك الميليشيات
الشيعية المتناسلة، بسرعة الارانب، والتي يزيد عددها على الخمسين، يتجمع
بعضها تحت مسمى «الحشد الشعبي» وأخريات ابقت على اسمائها للعب على الحبلين،
سواء بقيادة مقتدى الصدر أو هادي العامري. الأخير هو ابن الاسلاموية
الايرانية، الذي يعلن جهارا ان ولاءه وطاعته للامام، لولاية الفقيه، وكيل
الإمام الغائب وظل الله على الارض عند المؤمنين بذلك، وهو يجاهد وميليشياته
لنشر راياته في اراض اخرى واسعة كلها تحوي مقدسات يجب الدفاع عنها بصرف
النظر عمن يسكنها. واذا كانت الميليشيات السنية تقتات على التمويل الخارجي
(أمريكي – سعودي) فأن ميليشيات الحشد تعيش على الدعم الايراني تدريبا
وقيادة. الكل يتلفع، دوما، بالسيادة والوطنية. مما يستدعي التوقف عند مفهوم
«السيادة» لبلد، لم يعد فيه موطئ قدم لمواطنيه.
تصاعدت صرخات الدفاع عن
«السيادة» الوطنية، بشكل حاد، في الفترة الأخيرة، مع اصرار الحكومة
التركية على ابقاء قوات عسكرية لها في قاعدة، بمحافظة نينوى، والمطالبة
بالمساهمة، حالها حال غيرها، في « تحرير» الموصل. الصرخة الاولى، اطلقها
رئيس الوزراء حيدر العبادي قائلا «، أن السيادة العراقية خط أحمر، وعلى
تركيا احترام سيادتنا… لأننا لسنا بحاجة إلى قوات عسكرية أجنبية تقاتل
بالنيابة عنا». مضيفا « ولا توجد في بلادنا أي قوة أجنبية»، اما استهانة
بالعراقيين والعالم أو لأنه مريض بالوهم. و» الوهمُ، لغةً، هو الظنُّ
الفاسد والخداع الحسِّيُّ وكلُّ ما هو غير مطابق للواقع. والوهم، تعريفًا،
هو إدراكُ الواقع على غير ما هو»، حسب القاموس اللغوي.
العبادي ليس
وحيدا في وهمه، وهنا الخطر الحقيقي على الأمة. أذ صرح وزير الخارجية
الجعفري قائلا: «لم ولن نسمح ابدا بالتجاوز على اراضينا… هذا هو موقفنا
الثابت والقوي». مما يتجاوز مستوى الوهم الفردي إلى الجماعي أي مستوى
التضليل وطمس الحقائق. ويبرز «التيار الديمقراطي»، مثل بثرة على وجه
الحقيقة، حين يدعو إلى التظاهر ضد التدخل التركي، بينما اختار على مدى 13
عاما، التعامي والصمت الكلي على الاحتلالين الامريكي والايراني وجرائمهما.
ان اية مراجعة سريعة لتواجد القوات العسكرية على ارض العراق، يبين اسفاف
الادعاء بالسيادة وكيف ستوزع غنيمة الموصل. اذ وصل عدد القوات الامريكية
والحمايات المدنية، اي المرتزقة، عشرات الآلاف، بالاضافة إلى «قوات
التحالف» المساهمة في الحرب الجوية والمكونة من 64 دولة. ويشارك قاسم
سليماني، قائد فيلق القدس الايراني بقيادة ميليشيا الحشد المزهوة بخبرته.
وكل
من هب ودب على وجه الارض يدعي بانه يدرب، ويقدم الاستشارة، بدعوة من
«الحكومة» العراقية ليحافظ على سيادة العراق. مما يجعل تركيا (يأتي ذكر
السعودية معها احيانا) هي البلد الوحيد، في العالم، الذي ينتهك سيادة
العراق، وكأن كل من وطأ العراق، حتى اليوم، مادام بـ«دعوة من الحكومة» كان
قد مارس فعلا شرعيا، باختيار العراقيين انفسهم. ويبدو ان كرم الحكومة في
توجيه الدعوات لاحتلال وقصف البلد غير كافية، فدخلت المرجعية الدينية على
الخط متمثلة بالشيخ قاسم الطائي (السومرية نيوز 16 أكتوبر)، القائل في بيان
له «ندعو الحكومة العراقية إلى وضع الاجواء العراقية في تصرف الطيران
الروسي».
ان الموقف السليم هو ان نكون ضد اي تدخل أجنبي مهما كان
تعليبها بدعاوى محاربة الإرهاب (داعش أو حزب العمال الكردستاني، وما قد
يليهما من عناوين اخرى) خاصة بعد تجربة 13 عاما من تدخل الترويع
«الانساني»، وبعد ان عاش المواطنون مرارة «الحرب على الارهاب» التي باتوا
وقودا لها. ان خطب الانتصارات وتحشيد القوات، مهما كانت قوتها العسكرية، لن
تقضي على الارهاب. اذ يتغذى ارهاب المنظمات والدول على مدى الحاجة اليه
والتماهي معه ويتكيف وفقا لذلك. الحل الوحيد هو فهم الاسباب الداعية له
وايجاد الحلول العضوية، من داخل المجتمع، للتخلص منه. أما القوى الخارجية،
فيجب وضع حد لتدخلها، ايا كانت. وقد حان الوقت ان يدرك ساسة «العراق
الجديد»، اذا كانوا سذجا حقا، بأن «تقاطع المصالح» مع المحتل، أيا كان،
والاعتقاد بامكانية التخلص منه بعد ستة أشهر، كما كانوا يدعون، ليس مجرد
وهم مرضي قابل للعلاج، بل جريمة حرب ضد الشعب، بكافة مكوناته، ولن تزيلها
كل اغاني النصر وراياته الملونة.
٭ كاتبة من العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق