عنف الذاكرة
فاطمة الشيدي
إن ما يشهده العالم اليوم من عنف ممنهج في كل أرجائه، يدفع بالعقل
البشري للتفكر في مضامين هذا العنف، ودوافعه، تلك المضامين والدوافع التي
تنبعث من عدة اتجاهات تأويلية متداخلة المسببات والنتائج، وربما أفضى بعضها
إلى بعض في حركة دائرية ليس لها بداية أو نهاية. ولكن لعل أغلبها يصب في
فكرة عنف الذاكرة، فالعنف الذي يهز الكون من أقصاه إلى أقصاه في هذا العصر،
ينطلق غالبا من الذاكرة، فهو يأتي إما لترسيخ ذاكرة ما بقوة في مدارات
الآخر، أو ليدافع عنها من عنف الآخر الفكري أو المادي في حالة أخرى. فهناك
عنف يريد أن يحاصر الذاكرة الأخرى، ذاكرة الآخر في مداراته البدئية
والشاحبة كما يرى، مدفوعا بالسلطة الفوقية التي تريد محق تلك الذاكرة ومحو
تفاصيلها، وإحلال ذاكرته النوعية محلها. فهذا العنف يحاصر الآخر ذاكرة
ووعيا بقصدية الفعل، وفوقية القوة، ليتغلغل في حلمه الإنساني البسيط
بالأمان والرفاه، منطلقا من ذاته العلوية وعرقه الأسمى ومستفزا كل إيماناته
ومرجعياته وثوابته التي يعيش من أجلها فقط أحيانا كثيرة، هذا العنف الذي
مورس طويلا بطريقة مباشرة فجة، وأخرى ضمنية خفية، لكن رسالته كانت واضحة،
ولغته وأدواته المقنّعة كانت تحصد الكثير من الأرواح في السر والعلن.
ومن المضحك المبكي أن العنف المنطلق من الذاكرة القوية المتحصنة بفوقيتها، يحاول أن يبرهن للجميع أنه منطلق من دوافع ومضامين إنسانية كبرى، كالحقوق والمدنية والعصرية، ولكن الحقيقة أن هذه الدوافع محصورة فيما يخصه فقط، في حين يتقدم بكل عنجهية وغطرسة وتبجح فيما يخص الآخر، حتى لكأنه اللاشيء، وحتى لكأن قطرة دم من فصيلته تعني كل دماء الآخر القليل في مراياها الناصعة بالعنصرية والشوفينية الجلية والغامضة في ذات الوقت. والذاهب للذاكرة الأخرى، التي لم تجد بدا من صناعة حصونها لمواجهة هذا العنف القادم من منطقة ذاكرة الآخر الفوقية بكل جبروت ورعونة، وقسوة وهمجية أحيانا كثيرة، لم يجد بديلا عن الأيديولوجيا كخيار أخير، وربما وحيد أمام كل هذا العنف والغطرسة والظلم. بالتالي كان عنف الذاكرة المضاد ينمو ويتغلغل في مسامات العالم بمظلوميته الواسعة والراسخة في ضمير الكون بأجمعه، فقد كان يقتل وينكّل أمام شاشات العالم بلا رحمة ولا تعاطف بل بتبرير وتجاهل غالبا، ولا يعدم القوي ذلك.
لقد جاء العنف الآخر (المضاد) كردة فعل مدفوعا بحماية الذاكرة الخاصة به والذود عن منطلقاتها التي تشكل هوية إنسانية لا بديل لها في عالم الشر والقوة والجبروت والاستعمار الذي رزحت تحته تلك الذاكرة ردحا طويلا من الزمن. ومع تهليل الجموع لهذه الأيدي التي ستحمي الذاكرة/ الهوية، كان هذا العنف يزهو ويذهب في السلطة، حتى خرج من شرنقة الحماية للذاكرة وأضحى مستقلا في حضوره، وممعنا في القوة. ومع الوقت أخذ ينمو ويتكاثر باسم الدين وباسم الرب وباسم المذهب أو الطائفة، وتجزأ هذا العنف إلى أشكال كثيرة يواجه بعضها بعضا، ولكنه ظل في أكثر جوانبه متكئا على الذاكرة التي يدافع عنها، أو يقف ضدها، في محاولات جادة لحفظها أو محوها، كما تعددت الذاكرة لذاكرات كثيرة، كل واحدة منها تؤمن بالرسوخ وضرورة التقدم أيضا. وهنا لم تقف الذاكرة الفوقية التي حاولت فرض حضورها طويلا، تلك المتحصنة بالمدنية والحقوقية والكلام المتسع على الفراغ ضد هذا العنف المتصاعد، بل كثيرا ما غذته وأذكت بعض جوانبه، وقمعت بعض جوانبه الأخرى لحساب مصالحها وغاياتها التي لا تنتهي. وكانت تحرص على أن يظل هذا العنف قائما بصراعاته الكثيرة، ووجوهه المتباينة، فكانت تحرضه وتشعله مع الذاكرة المواجهة، الذاكرة التي تخافها على أطماعها، ذاكرة الحضارة القديمة، التي امتصت منها العلم والثقافة والحضارة وتركتها خاوية. ثم جاءت لتمتص خيراتها الاقتصادية والإنسانية، وتتركها جافة الضرع والوجود ملقاة على حافة الجهل والتخلف، كما حدث في كل أرجاء الوطن العربي، وتصمت عنه مع إسرائيل الذاكرة الموازية في خبثها وقوتها الجديدة، وأطماعها الممتدة في المكان والزمن، كما صمتت عن واجباتها الكونية في أماكن لا ضرع لها تستدر منه النفط والخيرات كبورما وربما كسوريا.
كل هذا الصراع جعل الذاكرة (التي وُجهت لها الحراب من كل زاوية) مقسّمة واهنة جافة من نضارة الوعي، ومحفزات التفكير، ودُفع بالعنف الذي كان ينمو تحت الرماد ويتغذى من الجيف في كل جانب؛ ليتطور ويتبلور ويتخذ أشكالا عديدة بدأت من الأيديولوجيا وانتهت بالسلطة السياسية، ذلك العنف الذي توغل في الداخل محكوما بالجهل والتخلف والفقر، ومشفوعا بمغذيات متعددة داخلية وخارجية تمده بالشرائع والفتاوى والقوانين. ولذا تعدد وانقسم وتشكّل في أشكال وألوان وأحجام كثيرة، فلم يعد الرب واحدا، بل تكاثرت الأرباب واتسعت الأيديولوجيا على مسارات الكونية، فهناك رب لكل جماعة، خاص بها فقط، يأمرهم بأن يحرروا العالم من الآخر أيا كان دينه ووجهه ولغته.
بالتالي تعددت الذاكرة بتعدد مصادرها ومراجعها، فقد أصبح لكل جماعة ذاكرة، تدافع عنها، ذاكرة تربي العنف الذي يخصها، العنف المبرر وفق أيديولوجيا الذاكرة الراسخة في العميق، والمستمد من أدبيات الجماعة وذاكرتها الضمنية.
هذا العنف الذي استطال وتغوّل فلم يعد يستثني أحدا، فدخل في مداراته المهيمنة والمسلّم بها رجل الدين والمثقف، والواعي والكاتب، والمتعلم والجاهل، فلا عجب أن تجد تلك المجاهرة بالجماعة والحرص على الانتماء لها، وبالتالي التحصن بالذاكرة في مواجهة تهديدات خارجية كما يعتقد الجميع.
وليس غريبا أن تلتزم الجماعات بالعنف الدفاعي للدفاع عن هذه المعتقدات باللفظ أو باليد أو بالسلاح إذا اقتضى الأمر، وأن يبرر المثقف والكاتب والشاعر قتل الآخر الذي ليس من ذاكرته، وربما حرّض عليه، لأن هناك ميولا نحو القوة المنبعثة من ذاكرة الماضي الخاصة به، وهناك ميل داخلي لمحق كل من لا ينتمي لذاكرته، ومحو الذاكرة المضادة محوا تاما.
وكلما صغرت الجماعات كبرت الذاكرة، وترسخت الانتماءات، وكأنها حالة متوازية تماما، فتتخذ الذاكرة صورة الدفاع المستميت، والمحرض على العنّف من جهة، والمسوّغ له من جهة أخرى عبر نصوصه وفتاويه التي لها أبدا من يقدمها جديدة طازجة كل حدث، أو يؤّلها عبر منظومة فقهية خاصة به ترضي الذاكرة والجماعة المنتمية لها، كما تتخذ الاختلاف حجة لمصادرة ذاكرة الآخر وتصفيته جسديا، لأنه مختلف وغريب وبعيد وهذا ما ترفضه ذاكرة الجماعة.
فالذاكرة هي التي تحكم عالمنا الموبوء بالماضي، مهما ذهب في المدنية، فهناك ذاكرة الحرب، وذاكرة المستعمر، وذاكرة القوة من جهة؛ وذاكرة القبيلة وذاكرة الدين، والعرف والوطنية من جهة مقابلة؛ وكل هذا الذاكرات تنتج عبر وسائطها المتحققة حالات جديدة للعنف، في حين هناك أبدا من يغذي الذاكرة من الخارج، ويزرع في ربوعها مظلومية التاريخ، وبالتالي ينفخ روح الفتنة التي ستتخذها الذاكرة الجمعية محاججات وذرائع أزلية وأبدية للنيل من الآخر. أيا كانت الذاكرة، وأيا كان هذا الآخر في فلسطين وسوريا ومصر والعراق، وفرنسا وبورما وقبلها أفغانستان وباكستان وغيرها، فالحجة واحدة ومصدر العنف واحد، إنه الذاكرة المستقوية، أو الذاكرة الموتورة، ولا أحد يريد أن يقنع ذاكرته بالاحتفاظ بما لديها لها، وتقبّل الآخر عبر ذاكرته بكل معطياتها وأفقها. لا أحد حتى دعاة الإنسانية، فالإنسانية تقف بعيدا أمام السلطة والمال التي لها حق الصدارة دائما.
أما نتيجة كل هذا، فهو فهذا العنف المؤدلج وهذه الحركات والجماعات التي تظهر وتتكاثر، القاعدة وطالبان، فـ»داعش» و»بوكو حرام» وغيرها، لتمد أذرعها الطويلة التي تذهب بعيدا في كل أنحاء العالم، وهذا الموت الذي يتحرك بلا هوادة متسللا عبر أكثر الأماكن هدوءا وسلاما وأمانا، إنه عنف الذاكرة الذي يتدرج في رفض الآخر من هيئته، وملابسه، ودينه، وشكله، وعرقه، ولونه، وكل أشكال التمييز، حتى يصل أقصى أشكال تجريم الآخر وهو الحكم عليه بالقتل وبأبشع طرق الموت وأعنفها المستقاة من الذاكرة أو من العصر. وهذه تحدث غالبا بعد تحقق واحدية الذاكرة، أو تأليه الذاكرة بمواصفاتها الجمعية الخاصة، ومنها أشكال عنف الذاكرة (اللحية الطويلة وما يتبعها من مواصفات، والأسود وما يتبعه من لون نسوي موحد) وإسباغ هذا الشكل على الذاكرة ليحيا الجميع في مسرحها المعتم بملامحه الموحدة في الصوت واللغة والشكل والتفكير.
ويصبح ما دون ذلك خارجا على الذاكرة ونسقها الموحد، مما يعني رفض وتجريم الذاكرة الأخرى أينما وجدت بكل حيواتها الطبيعية كالفرح واللونية في الحياة، أو محو جزء من تلك الذاكرة لصالح حالة جديدة تماما، تفرض سلطة الشكل الجديدة على الذاكرة، وتُبرر بالصحوات الدينية. ولذا أصبحت مظاهر الفرح التي كانت ضمن الديني كجزء من الذاكرة الجمعية (كاحتفالات المولد والهجرة والأعياد ورمضان) والتي ما زالت تلمع في خبايا الذاكرة الجمعية في زمن ليس بعيدا جدا؛ باهتة وشاحبة وشحيحة، وبدأ الفرح يتقلص من حيواتنا شيئا فشيئا بدعوى أن الفرح بدعة وأنه ضد الدين أو ضد الذاكرة.
وهنا لا يجد الإنسان السوي للخروج من مأزقه الوجودي الكبير سوى العزلة أو السفر لعدم قدرته على الانضواء تحت هذه الذاكرة الجمعية أو حتى مواجهتها. فيعيش بين ذاكرتين، وربما عدة ذاكرات لا يستطيع التعايش معها أو بها، أو يشحذ ذاكرته البعيدة ووعيه، ليصنع ذاكرة جديدة يعيش فيها حيث السلام، وربما يغير ذاكرته بين فينة وأخرى ليتصدى داخليا على الأقل لعنف الذاكرة.
كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق