قطار الانتحار
رأي القدس
لا يضيف تفجير انتحاريين نفسيهما أمس في منطقة برج البراجنة في الضاحية
الجنوبية لبيروت، معقل «حزب الله»، غير سطر جديد على النزاع الدامي في
المشرق العربيّ والذي تتربع فوقه أحزاب «إسلامية» يتنافس حاملو راياتها
الملوّنة على الوصول إلى الجنّة عبر قتل المسلمين!
وفيما يسعى الطامحون للوصول إلى الآخرة لقتل أعدائهم في الجبهة المقابلة (وهم أقرب الناس إليهم في أساس التفكير) يتبادل المحلّلون تحليلات مقسومة بدورها إلى «فسطاطين»، فيتهم بعضهم «الثورة الإسلامية» الإيرانية بأنها كانت وراء هذا المدّ الجامح الذي أجج طموح الحركات الإسلامية لاستلام السلطة بتأسيسها لجمهورية «وليّ الفقيه» التي يحكمها رجال الدين مما فتح الباب واسعاً أمام نظائرها من الإسلاميين للسعي بدورهم إلى استعادة «الخلافة الراشدة» أو «الدولة الإسلامية»، فيما تتّهم جهة أخرى الفكر «التكفيري» و»الوهابي» و»السلفي» وتوجه أصابع اللوم والتجريم صوب السعودية (وقد يتمّ مدّ ذلك إلى دول الخليج، جملة، وقد تضاف تركيا «العثمانية» أيضا، وكلّها بلدان تحكمها أغلبيات سنّية).
إضافة إلى جذورهما الطائفية، فالمشكلة في هذين التحليلين أنّهما «انتحاريان» أيضاً، فهما يبرئان جهة بالمطلق ويجرّمان أخرى بالمطلق، وهما قادران، كما يفعل أفراد الأحزاب الطائفية، على إلغاء الآخر بالفكر، تمهيداً لإلغائه في الواقع، بحزام ناسف، أو ببرميل متفجر، أو بغيرها من الأسلحة الكثيرة القادرة على إفناء الناس بالجملة.
يقوم الفكر الطائفي على إقصاء وإلغاء و»اجتثاث» الآخر، وهو فكر مليء بالأكاذيب الفاضحة، فالطائفيون الشيعة العراقيون، مثلاً، خاضوا حرباً لتهميش وكسر مقومات حياة نظرائهم السنة تحت دعوى «اجتثاث» حزب البعث، فيما تحالفوا مع نظام «حزب البعث» نفسه في سوريا، واعتبروا ثورة الشعب السوري مؤامرة، فيما آزروا شيعة البحرين ضد نظامهم، واعتبروا ما يقومون به ثورة.
غير أن بؤس هذا الفكر الطائفي، على ضفتيه، السنّية والشيعية، لا يتحمّل مسؤوليته الطائفيون وحدهم، رغم كونهم فاعلين ومؤثرين في نشره وتعميمه، فهم جلادون كما أنهم ضحايا جهالة العالم في تواطؤه على تمكين إسرائيل وتبرير توحشها على العرب والمسلمين، وهم أيضا ضحايا التحالف مع الأنظمة العربية في استبدادها.
وحين تأجج الأمل وثارت الشعوب على حكامها تحالف الطائفيون مع أنصار الاستبداد الإقليميون والعالميون ضدها وسدّوا على الناس طرق النجاة والكرامة والتنمية والعدل، فانقبرت آمالهم بالتغيير وانقلبت أحقاداً مظلمة ووساوس قاهرة تلقفتها، وقد تحوّلت طاقة كبرى مدمرة، أحزاب العدم السوداء ووظفتها في ملحمة إفناء الآخر.
ألمنا على مظلومي السنّة المدنيين في العراق وسوريا (ونحن نتحدث عن السنّة كفئات اجتماعية مهمّشة وليس عن «الفكر» السنّي) على يد الطائفيين (شيعة وسنّة)، لا يمكن إلا أن يتساوى ويتوازى مع ألمنا على مقتولي الشيعة المدنيين في لبنان أو العراق (وهنا أيضاً نتحدّث عن بشر لا يحقّ لأحد أن يخترم حيواتهم عقوبة لحزب أو اتجاه سياسي)، وينطبق الأمر على المدنيين من أفراد كافة الأقليات والإثنيات والمذاهب.
لعلّ من أكبر العلل في الفكر السياسي الممارس عربياً هو عدم احترام الإنسان، وهو ما يستتبع استسهال القتل واسترخاص الحياة البشرية، وتليه العلة الكبرى الثانية وهي عدم القدرة على تقبل الاختلاف، مما يستتبع إلغاء السياسة وإعلاء شأن الطوائف.
عودة مواطني المنطقة إلى إنسانيتهم تحتاج ظروفاً إنسانية أرقى وأرحم وأكثر عدالة… وإلا فإن سيستمر بالعبور فوق الجثث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق