وجه الليبيين القبيح
الأستاذ / يونس فنوش
[هذا هو المقال الذي قلت في إدراج على صفحة الفيسبوك أن فكرته كانت تراودني منذ زمن، وكنت أجد صعوبة في كتابة هذا العنوان الذي سوف يجده كثيرون قاسياً]
بعد تفجر ثورة فبراير، العظيمة بكل المقاييس، أخذت تبرز على سطح الأحداث ملامح من وجه لليبيين، كان مبهراً ومذهلاً لنا أنفسنا، بعد أن ترسخ لدينا الشعور وتعمقت القناعة بسيطرة وشمول تلك الملامح الرديئة التي أبرزها على سطح حياتنا نظام الاستبداد والقمع والفساد، وتمثلت في أنماط شتى من سلوكيات الدناءة والخسة: وشاية، ملاحقة، مداهمة، تعذيب، إهانة، إذلال، قتل، وأنماط شتى من ممارسات الفساد المالي والإداري: سرقة، غش، تزوير، رشوة، محسوبية، وساطة، قبلية.. إلخ.. فالحقيقة أن هذه الملامح الرديئة كانت قد بلغت حداً من الهيمنة والانتشار حتى بات كثيرون منا ينجرون بسهولة إلى التسليم بأنها هي الملامح الحقيقية لوجه الليبيين عموماً.
وبالطبع كانت هذه الملامح التي تظهر على السطح، هي الغالبة والأكثر بروزاً، مقابل الملامح الحسنة التي كانت منذ وقت مبكر، بعيد انقلاب 69، قد أخذت تنحسر وتختبئ تحت السطح، وتنزوي في ركن الحياة العامة؛ إذ لم يعد ثمة مكان في الساحة إلا لمن يرضون ويجيدون أساليب النفاق والوصولية والتزلف للحاكم الفرد، ومن يفتقدون الوازع الديني والأخلاقي والوطني الذي يمكن أن يحول بينهم والانزلاق إلى تلك الممارسات والسلوكيات الرديئة التي تحدثنا عنها.
وقد ظلت هذه الصورة تزداد مع مرور السنين تفاقماً وترسخاً في الواقع السياسي والاجتماعي والنفسي والأخلاقي في المجتمع الليبي، حتى انتهت بالغالبية الساحقة من الليبيين إلى حالة طاغية من اليأس والسوداوية، وفقدان أي أمل في خلاص أو تغير إلى الأفضل، حتى شاءت إرادة الله، أن تهيئ الظروف لانبلاج فجر الخلاص، من خلال ثورة فبراير، التي أشرت في بداية المقال إلى أنها أذهلتنا نحن ذاتنا، قبل أن تذهل العالم بروعتها وعظمة ما برز خلالها من مستويات نادرة من الشجاعة والإقدام والبطولة والبذل والعطاء.
ولقد عشنا هذه الثورة منذ لحظات تفجرها الأولى، وعايشناها من بعد عن كثب عبر مسيرتها الأسطورية في مقارعة نظام الاستبداد والطغيان، وشاهدنا كيف برزت خلال هذه المسيرة تلك الملامح الرائعة من وجه الليبيين التي كانت مختبئة ومنزوية في ركن الحياة، رأينا الليبيين كيف التحموا جميعهم، بمختلف فئاتهم وأطيافهم، وفي كل أنحاء الوطن، تحدوهم غاية واحدة هي الخلاص والانعتاق من ربقة حكم الظلم والاستبداد والتخلف، وكيف توزعوا فيما بينهم تحمل أعباء المسيرة وتكاليفها، فكان منهم من تبرع بالمال، ومن ساهم بالحركة السياسية، ومن ساهم بالصوت والقلم في مختلف وسائل الإعلام، وكان منهم من تطوع لإدارة شؤون المدن المحررة، وتقديم الخدمات للمواطنين، والسهر على أمنهم وسلامتهم، وكان منهم الرجال الذين انخرطوا في جبهات القتال، وأخذوا يقدمون أرواحهم ثمناً للحرية، والرجال الذين كرسوا جهودهم لتزويد أولئك المقاتلين بالسلاح والذخيرة، والنساء اللائي كن يسهرن على إعداد الطعام لهم، والرجال الذين كانوا ينقلون الطعام إلى جبهات القتال عبر المسافات البعيدة.
وقد عشنا عن قرب كيف سادت الجميع روح رائعة من الحب والمودة والوئام، وكيف ظل هاجس الانتصار في الحرب، والقضاء على الظالم وحكمه هو الهاجس الأول والوحيد، لم يكن يشغلهم هاجس غيره، وعشنا أجمل مظاهر البذل والعطاء ونكران الذات، وتقديم مصلحة الوطن العليا على أية مصالح أو مطامع شخصية ضيقة.
ولكننا ما كدنا نحتفل بالنصر المؤزر الذي انتزعناه بإرادتنا وعزيمتها وبذلنا ودمائنا من براثن حكم الاستبداد والتخلف، حتى أخذنا نشاهد كيف انقلبت الصورة، وأخذت ملامحها الناصعة النقية تتشوه وتتلاشى لتحل محلهاٍ ملامح قبيحة، ربما فاق بعضها في قبحه وبشاعته تلك الملامح التي كنا نحسبها من إفرازات وثمار نظام الاستبداد والتخلف، وكنا لذلك نحسب أنها ستختفي حالما يختفي ذلك النظام.
إن ما أخذنا نعيشه على أرض الواقع يشير إلى أن ملامح ذلك الوجه القبيح عادت لتظهر من جديد، ولتطفو على السطح في صورة بالغة القبح والبشاعة:
- فساد مالي في مختلف صوره وأشكاله: سرقة، تزوير، اختلاس، بلغ قمة بشاعته في صورة المتاجرة بآلام الجرحى والمصابين، والتستر تحت شعارات الثورة زوراً وكذباً.
- فساد إداري تمثل في استمرار هيمنة الآلة البيروقراطية السابقة، التي بنيت على معايير الوساطة والمحسوبية والرشوة، والتي ظلت تقودها عقلية المركزية القاتلة.
- انعدام آليات المراقبة والشفافية التي فتحت الطريق أمام ممارسات السرقة والنهب وإهدار المال العام، حتى لم يعد أحد يعرف بالضبط من يتحمل المسؤولية الفعلية عن أموال الدولة، فيكون مخولاً قانوناً بالإذن بالصرف، ومن ثم يكون موضعاً للمراقبة والمساءلة عن كل دينار صرف، وفيم صرف، ومن أي بند من بنود الميزانية صرف. ويكون عرضة للجزاء والعقاب، إذا ثبت أنه ارتكب خطأ أو ذنباً يستحق عليه العقاب.
- تفاقم ظاهرة الجماعات المسلحة التي تكونت بأسلوب التزوير والغش، وامتلكت السلاح، ومنحت نفسها، مستغلة ضعف الدولة وهوان شأنها وعجزها، حق فرض نفوذها وسلطتها، وحق ممارسة ما يحلو لها من ممارسات الإرهاب والابتزاز والعنف، حتى بلغ بها الأمر حد الاستهانة بمؤسسات الدولة ورموزها، والاعتداء عليها.
- تغول بعض المناطق وسعيها لفرض سلطانها على ما حولها من الأرض والسكان، حتى بلغ الأمر حد الاستهانة بسلطة الدولة، وفرض الحدود على مناطقها وإنشاء السجون والمعتقلات، وممارسة مختلف أشكال العدوان على حقوق الإنسان وكرامته.
- تفاقم ممارسات الفوضىِ، في إطار فهم خاطئ لمفهوم الحرية، باتت تمارس تحته مختلف ممارسات التعدي على الممتلكات العامة والخاصة، وعلى حياة الناس وحقوقهم، وممارسات انتهاك القوانين والنظم، أيضاً في ظل هوان الدولة وعجزها عن فرض هيبتها وسلطتها على المخالفين والمتجشاوزين.
فهل نعترف ونسلم بأن هذا الوجه القبيح هو وجه الليبيين الحقيقي؟ وأن ذلك الوجه الرائع الجميل الذي برز مع انبلاج فجر ثورة فبراير هو مجرد فقاعة نفخت فيها ريح الحماسة والوطنية بعض الوقت، ثم عندما خفتت تلك الريح انفجرت واختفت، ليبرز من خلفها الوجه الحقيقي القبيح الذي هو الأصل؟
أعترف أنه من الصعب علي التسليم بهذه النتيجة، ولا أملك ما أقول سوى أن هذه الملامح القبيحة يجب أن ننظر إليها على أنها طفح مرضي، انتشر على جلد الوطن والثورة، ربما بسبب اضطراب أو خلل عارض طرأ في أداء أجهزة الدولة لوظائفها الحيوية، وعلينا أن نجد الوسيلة لمعالجة هذا الخلل وإيجاد العلاج الناجع له. وهذا يتطلب كما هو معروف: البدء بتشخيص المرض والعلة تشخيصاً علمياً وافياً، ثم البدء في العلاج المناسب لتحقيق الشفاء.
وفي تقديري أن العلة التي يعاني منها جسد الوطن والثورة هي اختلال التوازن والتناغم اللازم بين الأجهزة التي تؤدي وظائفه الحيوية، والتزام كل جهاز بأداء وظيفته المحددة لها، دون التعدي على الأجهزة الأخرى، على النحو الذي يعيقها عن أداء وظائفها.
وأرى أن جسد الدولة يقوم على أجهزة أساسية حيوية، يجب أن يقوم كل جهاز منها بوظيفته على الوجه الأكمل، وفي حدود الموازنة والتناغم مع الأجهزة الأخرى، وهذه الأجهزة هي: الجهاز التشريعي، الذي تتمثل مهمته في وضع القوانين والتشريعات اللازمة لسير الحياة الجماعية على الوجه المطلوب، والجهاز التنفيذي الذي عليه أن ينفذ تلك القوانين ويسهر على التزام كل خلايا المجتمع (المواطنين)، والجهاز الأمني (الشرطي) الذي يفرض سلطة الدولة على من تسول له نفسه مخالفتها أو التعدي عليها.
ولقد قلت من قبل مراراً، إن الأولوية المطلقة في الحالة التي نعيشها وتعيشها الثورة في هذه المرحلة الحرجة هي لهذا الجهاز الثالث، الذي بدونه لا يستطيع الجهازان الآخران أن يقوما بوظيفتيهما على النحو المطلوب. وإن ما يحدث من مظاهر الانفلات الأمني والتعدي على حرمة السلطتين التشريعية (المؤتمر الوطني العام) والتنفيذية (الحكومة الانتقالية) يثبت يوما بعد يوم أن من العبث الحلم بإنجاز أي شيء على صعيد علاج المرض الذي نعاني منه، ما لم نجد الوسيلة الناجعة لفرض الأمن وهيبة الدولة.. كل ما عدا ذلك هو من قبيل العبث والمحاولة البائسة لتغطية عين الشمس بغربال...
حقيقة الأمر واضحة وضوح الشمس، كما يقال، وعلاج العلة معلوم ومعروف.. ما يلزمنا هو الطبيب الجراح الماهر، المزود بكل ما يلزمه من أدوات لإجراء الجراحة الصعبة التي عليه إجراؤها، لاستئصال الورم الخبيث الذي نراه ينهش جسد الوطن والثورة.
ولا يفهمن أحد أني أقصد بالجراح الماهر الحاكم الفرد، فهذا عهد قد ولى ولن نسمح بأن يعود، ولكني أقصد هنا الشعب كله، من خلال مؤسساته الشرعية التي ينتخبها ويحملها أداء هذه الأمانة.
يونس فنوش هاتف: 0925121949 e-mail: fannushyounis@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق