الحرب التي تأكل صغارها
فاطمة الشيدي
كاتبة عمانية
الآن و»عاصفة الحزم» تفترع اليمن جنوبا وشمالا، وتلتهم حاضرها وحضارتها
بلا وعي ورحمة ولا مسؤولية للإنسان أو للتاريخ، يستحضرني مثل شعبي: «الحرب
كالقطة إن جاعت تأكل صغارها».
ولا أعرف مصداقية هذا المثل الأخلاقية
والعلمية، بالنسبة للقطط، فهل هي تأكل صغارها فعلا إن جاعت؟ أم أنها بريئة
من كذب بني البشر، براءة الذئب من دم يوسف؟ ولكن الأكيد أن الحرب فعلا تأكل
أبناءها، فلا توجد حرب رحيمة، ولا حرب إنسانية، ومهما كانت الخيارات
الدافعة للحرب، فالحرب تظل دوما أسوأ الخيارات كما يعرف الجميع، وكما يعرف
من عاشها وجربها.
ولذا فلا يمكن لعاقل أن يذهب في اتجاه الحرب، دون حساب
الخسائر في الأرواح والحضارة قبل وبعد كل شيء، إلا نحن أبناء الحروب
الطويلة والكثيرة والممتّدة من داحس والغبراء، حتى «عاصفة الحزم»، الحروب
التي أكلت أرواحنا وأحلامنا بالأمن والحرية والسلام والرخاء.
ومن يستحضر تاريخ المنطقة العربية الحديث منذ سبعينيات القرن الفائت على الأقل يجد أن المنطقة تخوض حربا «دونكيشوتية» طويلة ومستمرة بلا غاية، فبعد حروب الاستقلال، وخارج القضية الفلسطينية، لم تكن هناك قضية حقيقية تستحق الحرب، ولكن كانت ومازالت هناك حروب، متعددة الأوجه والأقنعة، حروب وانقلابات وزعزعات بلا هدف وبلا ثمن، خارج التكالب المريض على السلطة، بل أن هذه الحروب أصبحت تتناسل مع الزمن، وتتغذى على دمنا، وعلى عيشنا ورزقنا، حروب أفكار وطوائف وجهل. مدفوعة الثمن، بلا وعي ولا تقدير لويلات الحروب، ولانعكاساتها المدمرة على المكان والإنسان.
ولذا فكلنا أبناء الحرب التي تأكلنا إن جاعت، وهي جائعة أبدا، أجيال بعد أجيال، اتحدت صرختنا الأولى بصرخات الهزيمة، وهدهدت مهودنا أغنيات الفقد، ووجع الغياب، وكبرنا لنتعلم المشي والكلام على صدى الوجع العربي، والشتات العربي، فتحنا أعيننا على شاشات تصدر لنا رائحة الموت، وأشلاء الموتى، سمعنا حرقة قلوب الأمهات، وبكاء الجدات، وحشرجة الآباء والأجداد.
منذ جئنا لهذه الأرض ونحن نعيش ونعايش ويلات الحرب، وأصداء الهزيمة والفقد، وها نحن نهرم وثمة حرب قائمة، وأخرى تلوح في الأفق، ووعد ووعيد بحروب لا تنتهي. حرب الجبل الأخضر، وحرب تحرير ظفار، والحرب الأهلية في لبنان، وحرب إيران والعراق، وحرب الكويت، وغزو العراق، حتى ثورات الربيع الدامي، والموت الجاهز والمجاني الذي يصدّر بسيطا وسهلا ومتاحا للجميع بلا ثمن، في شاشات منحازة لأصحابها ولأموالهم الكثيرة، شاشات تجمّل القبح وتصدّر الكذب والنفاق، وتحوّل الحقائق، وتقلب الموازين، وتشوه الجمال.
بل لقد أصبح معظمها مختصا في صناعة العفن، وترويج
الشر والكراهية بكل مستوياتها وأشكالها بشكل يدعو للقرف والتقزز، وأصبح
المواطن العربي يعيش حالة اهتزاز للثوابت، وفقدان للثقة في كل شيء من نفسه
حتى الله، مرورا بالأوطان والإنسان.
فماذا قدمت هذه الحروب لإنسان المنطقة المحاصر بالذل والقهر والجوع، ماذا فعلت لفلسطين، سوى أن رسخت هواننا العربي، وشتاتنا وتمزقنا وتفرقنا المخزي، ونحن نتفرج بحسرة على العالم من حولنا يذهب في الحضارة والتقدم، في حين مازلنا نقتل بعضنا، ونمجد القيد، ونحاسب على الكلمة، ونسجن المثقف، ومازالت بلادنا ترزح تحت وطأة الجهل، والقهر والجوع، حتى أضحت طاردة لكل قلم وفن وجمال، وبات أبناء هذه الأوطان يفضلون صفة لاجئ على مواطن، بل يفضلون المجازفة بالموت غرقا أو هربا على الحياة فيها.
فماذا قدمت هذه الحروب لإنسان المنطقة المحاصر بالذل والقهر والجوع، ماذا فعلت لفلسطين، سوى أن رسخت هواننا العربي، وشتاتنا وتمزقنا وتفرقنا المخزي، ونحن نتفرج بحسرة على العالم من حولنا يذهب في الحضارة والتقدم، في حين مازلنا نقتل بعضنا، ونمجد القيد، ونحاسب على الكلمة، ونسجن المثقف، ومازالت بلادنا ترزح تحت وطأة الجهل، والقهر والجوع، حتى أضحت طاردة لكل قلم وفن وجمال، وبات أبناء هذه الأوطان يفضلون صفة لاجئ على مواطن، بل يفضلون المجازفة بالموت غرقا أو هربا على الحياة فيها.
فكم من الأموال صرفت على هذه الحروب وكان الأولى والأجدى أن تستثمر في صناعة الإنسان وفي تعمير الأرض، وفي بناء الشوارع والبيوت والمستشفيات والمدارس والمعاهد ودور السينما والمسارح والمكتبات، وكم من صفقات الأسلحة التي عقدت بمليارات الدولارات، لتقتل آلاف الأشخاص بلا وعي باستثمار القوى العالمية لنا، واستغلال أموالنا لتدمير أوطاننا.
ماذا جنت بلادنا التي تعيش في آخر مستويات الحياة المدنية؟ وماذا جنى إنسانها المأزوم، والمهجّر والهارب والفقير والجائع والهامشي الذليل من كل هذه الحروب؟ وماذنب اليمن التاريخ والإنسان، روح العروبة، وأصلها الثابت وفرعها الذي في السماء، ليتكالب عليها المتكالبون، فتحشر في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، بين قوتين خارجيتين يتحدث كل منها باسمها، وهي منهما براء؟ ولكن هل سيدعها أعداء التاريخ والإنسان لتسمو بروحها جميلة عالية بلا ملح ولا جراح ولا أورام تزرع في جسدها الطيب؟
بالطبع لا، لأنها كالعراق وسوريا ذاكرة الشعوب وروح الحضارة، فلا بد أن يتهافت عليها المتهافتون، ويطالها الدمار المجتث لجذورها الموغلة.
وهذا سر الحزن العربي، وتلك الحيرة التي
كبرت واستطالت منذ 2011، بعد فرح وأمل قصير في التغيير واللحاق بركب الحياة
والحرية، فالكل اجتمع على إنساننا الذي أغلبه لم يتسلح كثيرا بالعلم، ولم
يتشرب مفاهيم الحرية والوعي والجمال، ولم يتعلم قيم الاختلاف والتعددية،
ولم يشف من السعي الحثيث وراء لقمة العيش، وأوعزوا إلى سدنة الجهل أن
يعيثوا فسادا في أوطاننا، ويحكموا القبضة عليها حسب المصالح والأهواء،
فتصبح الأوطان ممتلكات جائزة الحيازة والنقل، ومصدر صراع لقوى خارجية.
وكل
ما يحدث الآن هو محاولة إرجاع الإنسان لمنطقة الأسلم من الشر، والأذل من
الخيارات، والانحياز القسري لظل ما، مهما بلغت عتمته، ليتمكنوا من إذكاء
فتنة غير موجودة، وإعادة صياغة الأوطان وفق أهوائهم الدنيئة، وتقاسم
غنائمها، وتحجيم إنسانها.
وهنا تستطيل حيرة الوعي، ويخرس الكلام تماما،
أمام التاريخ الجديد الذي يكتب بالحقد والجهل وبدم الإنسان، وبعجزه التام
عن الفهم، أو منطق الانحياز لأي جهة ما عدا يمن التاريخ والإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق