الحياة .
منذ اللحظات الأولى للحراك الذي انفجر في درعا في سورية
عام 2011، سال حبرٌ كثير «يبشّر» بسايكس بيكو جديدة في المنطقة. لم يستند
هذا الاستشراف المغرور على معلومات أو معطيات، بل على ثابتة الكفر بالفعل
المحليّ والاستئناس بفكرة الغرف السود والمصير المرسوم من الخارج. في ذلك
من يذكّر بوحدوية المنطقة التي لم يمنع تحقيقها إلا مبضع متآمر أحال
المنطقة بلداناً وأقطاراً.
نكتشفُ اليوم أن الثنائي
سايكس وبيكو «أكرما» المنطقة بكيانات وتقسيمات كُتب لها الحياة منذ مئة
عام، وأن أهل المنطقة لم يأتوا طوال هذا القرن بأحسن منها، لا بل أن العرب،
لا سيما في الهلال الخصيب باتوا يحلمون بديمومة التركة السايكسبيكية، وهم
يشهدون تصدعها واحتمال تفتتها وزوال خرائطها.
لم تتقصد
بريطانيا وفرنسا بالتواطؤ مع روسيا القيصرية أن تُخرج، من خلال تقسيمات
السير مايك ساكس وجورج بيكو، وثيقة مقدّسة يُحرم الكفر بها. فالوثيقة التي
كشفتها الثورة البولشفية كانت تعالجُ حالة ظرفية فرضها انهيار الدولة
العثمانية، بيّد أن أهل المنطقة الذين لم يُستشاروا بمآلاتهم، أجادوا تقديس
خرائط الرجلين وأمعنوا في صونها، رغم أناشيدهم التي صمّت آذاننا عن الوحدة
والأمة والرسالة.
كانت مصالح الغرب تقتضي تقسيم
التركة العثمانية وفق ما تيسرّ، وبناء على تنافر أو تكامل مصالح دُولِهِ
الكبرى. لم يشقّ الرجلان حدوداً داخل دولة واحدة قائمة، بل أعادوا، وفق
تباينات، ترقية ولايات عثمانية إلى رتبة دول. وإذا ما فرض القدرُ
السايكسبيكي ظلماً وإجحافاً طاول مدناً ومناطق وقوميات، فإن ذلك يبقى
تقييماً نسبياً في ظل غياب تام لأي بدائل أخرى متوافرة أو تملك أن يدور
نقاش حولها.
لم تتغير مصالحُ الغرب ولا شيء يوحي أنه
يتآمر لمزيد من التقسيم في بلادنا. والأمر لا يعود لأخلاقية ونبل هابط على
عواصم القرار الكبرى، بل لرتابة في التعامل مع كيانات العرب منذ زوال ما
كان استعماراً أو انتداباً. وقد عملت واشنطن بدأب لبقاء السودان موحداً، أو
على الأقل لم تأنس للتقسيم (بشهادة مسؤولين سودانيين)، ذلك أن التعاطي مع
الكيانات الكبرى يبقى أقل تعقيداً منه مع تلك المتفتتة.
على
أن احترام كيانات سايكس بيكو وتدعيم صمودها، كان يحتاج، على ما يبدو وربما
في غفلة عن الرجلين، إلى رواج الديكتاتوريات على منوال ما نبت كالفطر بعد
الاستقلالات. بات زوال الاستبداد سبباً مباشراً لانفجار مجتمعي داخلي، ذلك
أن لحمتها الداخلية تشكّلت لأسباب غالبيتها قهري لا تعاقدي. وربما أن
إرهاصات التقسيم التي تطل على العراق وسورية تسوقها حاجة لعقود اجتماعية
جديدة تعيد تنظيم تعايش أهل المنطقة وفق قواعد يتدخلون لأول مرة في
استنباطها.
في تداول المراقبين العرب هذه الأيام لما
كشفته مجلة التايم الأميركية عن خرائط جديدة - قديمة لتقسيم العراق
بامتدادات سورية كويتية سعودية، يجوز القبول بذلك الاحتمال طالما أن
العراقيين (ربما لأسباب جيوبوليتيكية لا يتحملون وحدهم وزرها) عاجزون عن
انتاح مشروع عراقي يقنع مكوّنات العراق. الأكراد يلوّحون بإعلان استقلالهم
دون اعتراض تركي هذه المرة، فيما يوفّر الحدث الداعشي مبرراً متقدماً
لإنشاء الكيانين السني والشيعي. داخل تلك الأعراض يدفعُ الغرب العراقيين
لكتابة مصيرهم سواء من خلال الوحدة أو التقسيم، فلا يبدو أن دينامية دولية
تحول دون الخياريّن.
انتظرت المنطقة مئة عام لتنتفضَ
على مقدسات سايكس بيكو وتأتي بما هو أدنى منها. لكن الخروج من نمط جغرافي
إلى آخر، وإن كان مصحوباً بغصّة نوستالجية، قد يكون تطوراً متقدماً ينظّم
بشكل أصحّ تعايش المجتمعات ويشلّ نزوعها نحو التصادم، وقد يكون باعثاً
لاندثار النزوع نحو الاستبداد لحكم النقائض. على أن تقدم احتمالات التقسيم
قد تؤدي ربما، في الحالة العراقية على الأقل، إلى نضج حالة جامعة تعيد
إنتاج النظام السياسي على قواعد مختلفة عن تلك التي تناسلت من واقعة
الاحتلال عام 2003، وإن كان أمر ذلك ما زال عصيّاً في الوقت الراهن.
التخلص
من السايكسبيكية ليس أمراً استثنائياً إذا ما قورن بتمارين التفكيك وإعادة
التشكّل التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. أتاح أنهيار جدار برلين عام
1989 أندماج الألمانيتين. لكن نفس الحدث لم يُعِد لألمانيا الموحدة
الأراضي الشاسعة التي كانت قد اقتطعت منها وضمت إلى بولندا ضمن ما يسمى بخط
أودر - نايسه. فكك الحدث يوغسلافيا بطريقة دموية أظهرت مستويات عالية من
الحقد الداخلي المكبوت، فيما فكك نفس الحدث تشيكوسلوفاكيا بطريقة سلمية
حضارية أسست لتعايش حضاري متقدم بين الكيانين.
بكلمة
أخرى قد لا يدور النقاش في منطقتنا حول وجاهة التفكك ونجاعته، بل حول وسيلة
الخروج من الكيانات التقليدية والدخول في أخرى. في ذلك أن نموذجيّ العراق
وسورية لا يبشران إلا بالمخارج المأسوية على منوال انفصال باكتسان عن
الهند. ربما قد يكون من الحكمة، وقد عزم أهل المنطقة على انفصال، إعادة
استدعاء سايكس بيكو آخر يفرض بقوة القانون الدولي ربما، انتقالاً أقل دموية
يجنب المنطقة كارثة أين منها كوارث اليوم.
* صحافي وكاتب سياسي لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق