لا جدوى للكلام …
ليكن الصّمت في باقي العمر
كما كان في مستهلــّه
بقلم الأستاذ / محمد عبدالله حنيش
رأينا في أعمارنا كثيرا ,,, وربما بأكثر مما يجب .
فالعقل محدود الوعاء , والأمور تسير بمقدراتها ,,, والمعادلة جدّ صعبة .
أقحمتنا أحداث الزمان فيما نطيق , وما لا نطيق , أو أننا كنا نقحم أنفسنا في كل شيء فضولا أو اهتماما , كنا نريد أن نعرف .. وكنا نتمنى أن نسعد … وأردنا ـ أو تخيلنا ـ أن تسير الأقدار مع ما في الأماني , فأصبحنا نعيش مع الأحداث , و مواقع حدوثها أكثر مما نعيشه مع أنفسنا .
فلا تمّت المعرفة بماهيّة الأمور ,,, ولا تحقق ما تصبو إليه الأماني .
امتلأت الذاكرة ,, وأُرهقت الأعصاب…
نتذكر مناظر شيوخ وعجائز فلسطين تسوقهم جند الصهاينة فى قطعان التـّهجير .
شاهدنا قادة طائرات الفانتوم الاسرائيلية يتسلـّون باصطياد رعاة قطعان الماعز في بادية سيناء سنة 1967 بعد قضائهم على الجيش العربي المحتشد لتحرير فلسطين , والذي حشد معه تصديقنا حينذاك لأوهام العنتريات الزائفة.
رأينا الطفل محمد الدّره يحتمى بجسم والده النحيل , ولكن رصاصة الصهاينة تنفذ إلى مقتله.
شاهدنا رأس المواطن العراقي بعقاله العربي يدوسه حذاء الجندي الأمريكي بعد ( التحرير ! ).
ولا ننس تلك اللقطة المرعبة للمسلم البوسني العاري وهو يرتعد هلعا عندما نزلت عليه سكين الصِّربي المتعصّب لتنحره كالشـّـاة الوديعة .
وصور أطفال الجزائر المحطمة رؤوسهم على الجدران بأيدي المتشدّدين ( مجاهدي الجزائر ).
ولا تغيب عنا صور رفاة أبنائنا وقد غطت الرمال معظم جثامينهم في عراء ميادين معارك تشاد الخاسرة.
وشربنا مرّ الكؤوس كدرا عندما لوّنت دماء شهدائنا الجدران فى مذبحة سجن بو سليم .
وتسمّرنا أمام الشـّاشات وأجسام أولادنا تتدلى فى مشانق ساحات اللجان الثورية.
وتختلق مذبحة ( حلبجة ) فى العراق بسلاح الكيماوي توأما جديدا لها حاليا في ( ريف دمشق ).
وفى بـــلادي ,,,
خرجت الجماهير تتقدمها صفوف الشباب المضحِّي لتصرخ ( لا ) في وجه الظلم .. ففرحنا وتسلل نسيمٌ للحرية منعش إلي أمان ٍ حبيسة ,,, وسمحنا للخيال أن يستعيد مشاهد انتصارات صلاح الدين باستعادة ( القدس ) … وصيحة سيف الدين قطز ( واسلاماه ) … وبطولات عمر المختار ورجاله .
انفرجت الشفاه المغلقة لتباشر التعبير من جديد بعد صمت دام طويلا .
قلنا ,وردّدنا الحكايات التاريخية الواقعية , وبالرومانسية أيضا أردنا أن تتحقق الخيالية فى زمننا.
(يالروعة أن تعيش فى حكاية !!)
تصورنا أن الإنسان النبيل سينبت من جديد ,, أدهشتنا التضحيات فى ثورة 17 فبراير , وسط زغاريد الحرائر. وتنهمر دموع الرجال عندما يُتلى نشيدنا الوطني المنهوب , و يخرج ويُرفع علم الاستقلال المحجوب , وبدا وكأننا لم نـُصب بالتـّبلد والخمول والإحباط من مساوئ ما رأينا .
ولكن ,,,
ما لبث الأمر أن غزانا هواةُ الاصطياد , ليتحّول الربيع إلى خريف دام ٍ, فتـُعمى الأبصار والبصيرة , وتـُنهب البلاد أمام الأعين ,, وتتحلل وتتبدد المسئولية فى غياب السلطة , وضياع هيبة الدولة , وأفول الضمير.
لقد هبّت رياح التغيير فعلا ,, لكننا لم نغيّر ما بأنفسنا حتى يغير الله بالتالي أحوالنا , فرجعنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا .. والوعد الحق المطلق هو أن : ( لا يظلم ربك أحدا ) . و هو أساس قاعدة العدل السّرمدية , فلا غرابة إذا ـ والحال هكذا ـ أن نتجّرع اليوم مرارة السّلب بعد ما ذقنا حلاوة العطاء ,,, وهو ما عبّر عنه الشاعر في سياق تخريج هذا المعنى بما قال :
سالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر .
فالذاكرة مملوءة ,, والعقول مشوشة ,, والأعصاب مرهقة .
سنطفأ التلفاز , ولن نطالع (الانترنت) , ولا داع ٍ لتصفح الجرائد . بل إن العود للصّمت أفضل . ويسوق أدبنا الشعبى أجمل ما يمكن أن يختصر كل المعنى , وفى دقة تعبير تفوق كل بيان :
( دَرَاكْ عَالصّوَابْ عَصَيْتْ عَطاكْ فا لـْخـَطا طـُولْ غـايْتـَكْ )
( والمعاني تدركها الأذواق ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق