هل تكتب
الميليشيات دستور ليبيا
المقبل؟
25/11/2013
العرب القطرية -عبدالوهاب بدرخان:
بلغ
السيل أقلّ قليلاً من الزبى في العاصمة الليبية، إذ يبدو أن الميليشيات
تحتاج إلى مجزرة أكبر من تلك التي ارتكبتها حين أطلقت النار على المتظاهرين
المطالبين بخروجها. لذلك اضطر المواطنون للحشد ثانيةً والتظاهر في جمعة
أخرى سمّوها «جمعة الرحيل» للحصول على طرابلس بلا ميليشيات «غريبة».
لو كان نظام القذافي موجوداً هل كان تصرّف بشكل آخر غير قتل المتظاهرين.
لا أحد يترحّم على أيامه أو يريد استرجاعه، غير أن المقارنة فرضت نفسها،
فبعض من خلفوه بات يبزّه وحشيةً وقباحةً.
الأكيد
أن الحكومة القائمة لم تجد بعد العلاج المناسب لهذه الآفة التي ابتليت بها
ليبيا. فهي معذورة من جهة إذ لا تستطيع اختراع جيش للدولة وللوطن طالما أن
النظام السابق كان فكك جيشه في «كتائب أمنية». لكنها مسؤولة من جهة أخرى
إذ تركت نفسها تغرق في صراع التيارات السياسية المتناحرة لتستيقظ على واقع
أنها صارت مسيرة ومعوّقة فأضاعت البوصلة التي يجب أن تعطي كل الأولوية
لبناء قوة شرعية يكون قوامها نواة الجيش والشرطة.
ففي الفوضى السائدة حالياً لن يستقيم تغيير سياسي سليم ويستحيل بناء
اقتصاد وطني متوازن، لأن الأمن والأمان مفقودان، ولأن ليبيا تعيش حالاً
صوملة مقنعة لكنها تعوم فوق بحيرة نفطية فيما يرزح الصومال تحت شبح مجاعة
مستدامة تتفاقم وتتضاءل بحسب الظروف الحربية.
استُهلك
كثير من الوقت في الحديث عن أفضل الطرق لاستيعاب الحال الميليشيوية التي
فرضها الأمر الواقع، غداة سقوط النظام السابق، ومضى عامان من دون أن تُطرح
خطة واضحة للدمج والتدريب وصهر المجموعات كافةً في بوتقة الدولة. والأسباب
واضحة فالمسلحون في الشوارع لم يأتوا من فراغ، بل إن لهم أسياداً وأحزاباً
ارتباطاتهم ومراجعهم ومموّلوهم المحليون والخارجيون، ومع هؤلاء ينبغي
التحاور والتوافق لبتّ مصير الميليشيات.
لكن
ما العمل إذا كان هؤلاء الزعماء والأحزاب هم المشكلة؟ من الواضح أن نهاية
الأربعة عقود ونيّف القذّافية تركتهم معدومي الخبرة سواء في التعايش الوطني
السليم أو في بناء الدولة والعمل السياسي، لذا تراهم يميلون الآن للاحتكام
إلى نوع من «توازن الرعب» ويفضّلون الانتظار فيما هم يتنافرون ويتصارعون
وأحياناً يصفّون حساباتهم بأساليب شتى بينها أعمال الخطف والاغتيال. لم يكن
مستغرباً أن ميليشيات تحلّ مكان ميليشيات في طرابلس، وأن تعتبر «الدروع»
و»القعقاع» غير مرغوب فيها ومضطرّة للمغادرة فيما تعتبر عناصر «غرفة ثوار
ليبيا» كما لو أنها «شرعية».
لكن المستغرب أن يقرّ المؤتمر لوطني العام (بمثابة برلمان) حلّ هذه
«الغرفة» ثم تجدها فاعلة بل يُعتمد عليها. فماذا حلّ بقرار المؤتمر، ولماذا
اتخذ ثم لماذا لم يُنفّذ، وكيف تقبّل استمرار «الغرفة»، وبأي حجة سيبرر
سكوته إذا تعالت لاحقاً الشكوى من ممارساتها؟ هذا هو بالتحديد ما يسمّى
تخبطاً، حتى لو كانت الضرورة هي التي أباحت المحظور، أي معالجة الداء
بالداء.
ذاك أن الميليشيا تبقى ميليشيا، وهذه تعريفاً مجموعة أو عصابة (بالمفهوم
القانوني) ولاؤها الأول لزعيمها ولسلاحها، والزعيم هو الذي يحدّد مصالحها
أما السلاح فهو الذي ينتزع هذه المصالح ويحميها. ويتعذّر على الميليشيا،
إذا لم تخضع للتأهيل، أن تكون للصالح العام أو لعموم الوطن مهما أضفت على
نفسها أصباغ الوطن والوطنية.
راقب
العالم في يوليو 2012 انتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام وأُعجب بالتجربة
التي أقبل عليها الليبيون، معظمهم للمرّة الأولى في حياتهم، بهدوء وانضباط.
ويراقب العالم اليوم ما حصل من تشويه وتدمير لهذه التجربة وقد حلّ الشك
والخوف والاشمئزاز محل الإعجاب.
ورغم
أن الشعب صوت وعبر بوضوح عن ميوله وتفضيلاته إلا أن «المؤتمر» سرعان ما
عكس الواقع على الأرض، فصار هو نفسه يمثّل القبائل والمدن والجهات، وهذه
متفرقة لا لحمة في ما بينها.
والأسوأ أن العقلية الميليشيوية طغت على أعمال ما يعدّ «برلماناً» ولو
مؤقتاً لدولة واحدة موحّدة، إذ أن أعضاءه لم يشيعوا انطباعاً لدى مواطنيهم
بالجدية في إنهاء المرحلة الانتقالية في أقرب الآجال، بل عكسوا تماماً
الصراع السياسي بكل تفاصيله، فأخضعوا تشريعاتهم لضغوط المسلحين، ولم
يتمكّنوا من تحصين الحكومة لتستطيع العمل، ورسّخوا مناخ الإقصاء لفئات في
المجتمع بل أحلّوا عملياً دم ضباط وموظفين بذريعة أنهم عملوا مع النظام
السابق، ولم يتصدّوا للحصارات التي تخضع لها المنشآت النفطية الحيوية
لاقتصاد البلاد، حتى إن الدعوات إلى الفدرلة والتقسيم لم تقلقهم رغم ما
تؤسسه من مشاعر انفصالية في بلد لا تزال هواجس التفكك تطارده.
أكثر
من ذلك، أدّت الصراعات السياسية واقعياً إلى تأخير البدء بكتابة الدستور
الجديد، الاستحقاق الذي لا بدّ منه لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية
كخطوتين رئيسيتين على طريق بناء الدولة، بل أدّت أيضاً إلى رفض اقتراحات
قدّمتها دول عديدة للمساعدة في حل مشكلة الميليشيات تدريجياً. وقد عنى ذلك
أن القوى السياسية، خصوصاً الإسلامية، تستغلّ الوضع الحالي لتعزيز نفوذها،
وبالتالي سيكون الدستور معركتها الحاسمة، لذلك فهي عازمة على عرقلة بناء
جيش وشرطة وطنيين إلى ما بعد التأكد بأنهما سيكونان تحت إشرافها وسيطرتها،
في ضوء الدستور.
من هنا أن ليبيا تقترب من ذروة التأزم، لأن معركة الدستور لن تكون سهلة
وستُخاض نقاشاً حادّاً في قاعة «المؤتمر» وأروقته وعمليات إرهاب وترهيب
خارجه. وعلى افتراض إنجاز هذا الدستور في نهاية المطاف، فهل يكون آخر
المعارك، وهل ينصاع الجميع لم يتمّ التوافق عليه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق