موقف أخلاقي
من سيرةأسلافنا الأطهار
شرفاء ليبيا .
بقلم الأستاذ/ محمد عبدالله حنيش
رواية هذه الحادثة بعينها , وتحديد مكانها وأسماء أشخاصها , لا ترمز إلى تحييز مكانى دون غيره , ولا تقتصر على أسماء جهادية بعينها ...فمثلها وربما أكثر منها وقائعا وتوصيفا قد تكرر كثيرا بطول بلادنا وعرضها ؛ غربا وشرقا , وشمالا وجنوبا ,, وإنما هى إحدى تلك البطولات الرائعة , والتضحيات المجيدة , من بين القليل مما وصل إلى سمع الكاتب من قصص جهاد الآباء الأماجد طيلة عهد الاحتلال الايطالى لليبيا .
فالمجاهد المعروف باسم : ( بوبكر بوزكرى الجحيشى ) من قبيلة المنفه المستوطنة بجهة البطنان شرقى بلادنا الحبيبة أحد ثلاثة مجاهدين من جنود عمر المختار بقوا محصورين , وتقطعت بهم السبل إثر القبض على قائدهم وإعدامه فى تلك الجريمة النكراء التى ارتكبتها إيطاليا , فعلى أثرها انتهت المقاومة ضد المحتل , وتفرق المجاهدون.
فتـّش الثلاثة عن بقايا ما يقتاتون به فى ديار المواطنين الخالية , والمهجـّرين منها منذ ثلاثة أعوام إلى معتقل البريقه , فلم يجدوا شيئا .. اللهم إلا بقايا قِـرَبٍ جلدية ناشفة وملقاة فى العراء منذ هجرة الاهالى المذكورة ,, وهى عبارة عن جلود الأغنام التى كانت تستعمل لمخيض اللبن الرائب , وتسمى ( الشـّكوة) وعندما تعيب أو تستقدم يرمونها فى الخلاء , ويتحول ذلك الجلد الناشف بفعل حرارة الشمس القوية إلى ما يشبه الشيئ المتحجر , فيصبح اسمها بلغة الأهالى المحلية ( قرقوبه ) ... فاضطر الرجال من شدة جوعهم إلى تنقيع تلك الجلود الناشفة فى الماء ومحاولة تقطيعها وأكلها !.
حالتهم مزرية , أشبه ما يكونوا بالغيلان المتوحشة , شبه عراة , ويغطى وجوههم شعر حائل كثيف ,, يتضورون جوعا , مختفون طول النهارعن أعين السلطة ومخبريها المتربصين بكل شاردة وواردة , فاذا ما حلّ الليل خرجوا باحثين عن ما يسد رمقهم :صيدا أو جرذانا أو حشائشا من الأرض, فالأهالي المُستثنون من التـّرحيل للمعتقلات , جرى ضمهم فى مجمعات محلية أخرى فى المدن ,والبلاد تحدها من ناحية مصر خطوط أسلاك شائكة تمتد موغلة فى الصحراء القاحلة طولا فى الجنوب , وكذلك تمتد شمالا وحتى مساحة طويلة فى البحر منعا لهروب المجاهدين أو تسريب الأغذية إليهم , وفى هذه الظروف العصيبة انقطعت السبل بهؤلاء الثلاثة ... و كانت أحكام قوانين المستعمر تقضى بإعدام كل من يساعد أو يتعاون مع الثوار ـ المعرفين فى قانونهم باسم المتمردين ـ وحرق بيته ومواشيه , ووقعت حالات تنفيذ العقاب بتلك الأحكام فى مرات كثيرة , أذكر منها وفقا لما سمعناه رواية عن الكبار: ما حدث فى منطقة رأس الهلال بالجبل الاخضر حين أقدمت إيطاليا على تنفيذ ذلك الحكم بشنق المواطنين وقتل المواشى وحرق نجع ( آل الصحفاق) الذى كان منزله فى البطحاء الموجودة على يمين طريق رأس الهلال ـ سوسه عند قمة الهضبة التى تعلو الميناء وذلك تأسيسا على ما تناهى لعلم السلطة أن بعضا من المجاهدين مروا بالنجع المذكور فى إحدى الليالى وتمت استضافتهم على طعام العشاء ... وكذلك ما تضمنه مستند ثبوتى ورد فى كتاب الرحالة الدنمركى المسلم ( كنود هولمبو ) عما حدث بمدينة درنه , حيث تصادف مروره بها فى تلك الفترة وهو فى طريقه للحج عندما أقدمت السلطات الايطالية بتنفيذ حكم الاعدام فى امرأة كانت قد اتهمت بأنها زودت أحد الثوار ببعض السكر والشاى من وراء السور الذى يطوق المدينة . وغير الحادثتين المذكورتين الكثير مما حصل مشابها فى معظم مدننا وقرانا ومنتجعاتنا .
عودا إلى الثلاثة موضوع الحديث... فقدتدارسوا وضعهم , ولم يجدوا حلا إلا دخول البحر ليلا , والمجازفة بقطع المسافة التى يمتد فيها سور الاسلاك الشائكة حتى نهايتها سباحة , ومن ثم الرجوع مع الجهة المقابلة للسياج بنفس الوسيلة حتى بلوغ البر الساحلى من جانب الأراضى المصرية , لكن المفاجأة التى اتضحت أن أحدهم لا يعرف السباحة , ولم يسبق له محاولة تعلمها ! , فحاول الآخران تدريبه ليلا , ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال .. وأخيرا تمكن من إقناعهما بأن نجاة اثنين منهما خير من هلاك الثلاثة ,,, قائلا : سأسلم نفسى فى مدينة طبرق القريبة .. فإن كان فى عمرى بقية فلن يستطيع الايطاليون قطعها , وإن كان الأجل حاضرا فلست بأعزّ من ( سيدى عمر ) يقصد عمر المختار الذى تم شنقه ببلدة سلوق.
وفى ليلة لا يكشف ظلامها نور القمر , ودّع الاثنان زميلهما على الشاطئ ودلفا فى ظلمتى الليل والبحر إلى المجهول ,, تاركين إياه لمصير مجهول من نوع آخر .
كان النظام يقضى بأن يبيت المواطنون ( المغلوبون على أمرهم ) باعتبارهم موالين لأحكام المستعمر ليلهم فى المجمعات المحددة حول المدينة ومحتفظين بحيواناتهم وممتلكاتهم داخل الحواصل لكى لا يتسرب منها شيئ يستفيد منه المجاهدون , وفى النهار يسمح لهم بالخروج والرعى شريطة أن يتم حصر كل شيئ مع غروب الشمس للتأكد من رجوعه كاملا إلى الحواصل .
خرج أحد هؤلاء إلى قطعة أرض استصلحها فى الزراعة البعليـّة قرب المدينة , وقد أحاطها بسياج مشبك من أغصان وفروع الأشجار والاحراش النباتية الى لا يمكن اختراقها ,وفجأة سمع هامساً من وراء السياج يناديه بصوت خفيض , وعندما دقق النظر من بين فجوات السياج رأى وحشا فى صورة هيكل أنسان شبه عار ٍ ... وكانت الفاجعة التى لم يكن يتوقعها ؛ أن الثانى خاطبه قائلا : لا تخف فأنا ( بوبكر بوزكرى الجحيشى ) ,, إذاً هاهو يواجه طامة كبرى , فالرجل الذى أمامه هو أحد المتمردين المشهورين والمطلوبين لدى حكومة ايطاليا باعتباره أحد رجال عمر المختار، ولو علمت السلطات بأنه رآه أو تخاطب معه بدون أن يبادر بالتبليغ عنه فسيصبح وفقا لأحكامهم متعاونا مع المتمردين يستحق الاعدام , وأن يحرق بيته وما يحتويه .
قرأ ( بوزكرى ) ما يدور فى ذهن الرجل حين أبدى اضطرابا واضحا , فبادره قائلا : هلا ّ أحضرت لى ما أستر به جسمى , وموسى حلاقة , ولقمة أقتات بها ... ثم افعل بعد ذلك ما شئت , وبلغ عنى إن أردت .
جرت المحاكمة العسكرية الخاصة سريعا فى طبرق بصحيفة اتهام جاهزة , وتليت على المتهم مجموعة التهم التى تدور حول :ـ
* التمرد ورفع السلاح فى وجه حكومة ايطاليا .
* الاشتراك فى المعارك مع عمر المختار واتباعه فى المواقع الحربية المتعددة.
* قتل الضباط والجنود الايطاليين المذكورة اسماؤهم ورتبهم فى صحيفة الادعاء.
* السطو على قوافل التموين والسلاح والاستيلاء عليها وتحويلها الى المتمردين .
كان المدعى كلما فرغ من قراءة بند من بنود الاتهام يسأل المتهم عن قوله فيما نـُسب إليه , فيصادق ( بوزكرى ) مؤكدا صحة الاتهام ومعترفا به ! , وغنى عن القول أن أبسط تهمة من هذه التهم كفيلة بصدور حكم الاعدام ضده, إلى أن جاء المدعى على ذكر التهمة الخامسة وهى : السطو على بيت مدير ناحية قريبة من طبرق ـ أحد الموظفين المحليين ( مواطن )من العاملين مع حكومة ايطاليا ـ وسرقة الذهب الخاص بأسرته , وإرساله إلى قيادة المتمردين كمصدر تمويل للجهاد , هنا صرخ المتهم بأعلى صوته أمام المحكمة قائلا : لا .... لا.... السرقة لا .
تم استحضار مديرالناحية المعني فى الجلسة الثانية ليتعرّف على شخصية المتهم كشاهد إثبات, وليؤكد ثبوت التهمة عليه. وهنا خاطبه ( بوزكرى) قائلا : ( إستحي) يارجل مما تقول (إستحى ).. هل تعرفنى سارقا ؟ .. أنا جاهدت مع سيدى عمر فى سبيل وطنى بالحديد والنار ضد العدو فى ميدان الجهاد وفى وضح النهار .. ولكنى ما دخلت خوالف البيوت فى الظلمات لأسرقها ,, لا.. لا .. السرقة لا .
ثم التفت نحو هيئة المحكمة وقال : أنا لو تمكنت من دخول بيت هذا ( المـَطـّلـْيـَنْ ) ـ أى هذا العميل لإيطاليا ـ لكنت قد قطعت رأسه , لا لأسرق بيته !!.
فالرجل الموقن بأنه سيُساق إلى المشنقة قريبا حريص فى أواخر لحظات العمر على ألا يُدان بسرقة حتى وإن كانت بمفهوم الحرب مشروعة , ولا أن يتشوه تاريخ نضاله بما تقذيه الاخلاق العامة وسلوكيات الثوار .
زفـّت ملائكة الرحمن روح المجاهد ( بوزكرى) إلى الملأ الأعلى بعد أن تدلى جسده طاهرا فى حبال المشنقة ليلحق برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
وتمكن زميلاه الآخران من عبور الحاجز الشائك الممتد فى البحر عوما حتى وصلا الشاطئ المقابل ليهاجرا بالقطر المصرى لاجئين به , إلى نهاية الحرب العالمية الثانية واندحار إيطاليا وبالتالى خروجها من مصر .
هذه القصة أطلـّت من مخزونات الذاكرة , عندما ترادفت أحداثٌ نسمعها هذه الأيام عمّن يحملون السلاح فى بلادنا متشبهين بالثوار ويطالبون بالمال ,,فى سلسلة مواقف نحسبها أبعد ما تكون عن سلوك من جاهدوا فى سبيل حرية الأوطان وتحريرها.
وفى الختام ,,, يجد المرء نفسه يكرر عبارة استخدمناها فى هذا الشأن كثيرا .. ولا نجد ــ والحال هكذا ــ بأحسن من مدلولها وضوحا وهى :
(( أننا سننتهى نحن ,, ونفنى ,, ويبقى التاريخ)) .
فهـــــل من مُــــــدّكـــــر ؟؟؟ !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق