السلطة والمثقف: التباسات وأسئلة
فاطمة الشيدي
والعالم العربي يشهد هذا الارتباك النوعي العنيف في الفكر والسياسة وفي
كل شيء تقريبا، يتصدر مفهوم المثقف (المرتبك أيضا) السطح عبر وسائل الإعلام
والندوات والمحاضرات، وربما حتى عبر أحاديث الناس اليومية، في محاولة
لتعريفه أو لبيان دوره المناط به، من تفكيك الوعي، والذهاب به أبعد من نقطة
الآن العصية على التحليل والتفسير أو التجاوز.
فمن هو المثقف؟ وما هو دوره في المجتمع؟ أسئلة ما تزال عالقة في الوعي العربي المرتبك بالمفاهيم التي تنمو وتتفرع دون أن تكون هناك أرضية جيدة لمحاورتها أو تحديدها، أو تحييد المتغيرات التابعة لها، والاحترازات المنبثقة خارجها، قبل تجاوز العالم لها، وبالتالي يحدث الكثير من الالتباس والخلط، الناتج عن التراكم غير الموضوعي في الكثير من المفاهيم.
هذا ما يخرج به المتابع بعد كل ندوة ثقافية تتناول الثقافة أو المثقف بكل تصنيفاتها، وأبعادها، وهذا ما خرجت به شخصيا من ندوة المثقف والسلطة التي أقامتها الجمعية العمانية للأدباء والكتاب بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2016، الندوة التي يحسب للجمعية إقامتها، وللسلطة السياسية السماح بها، بل تعد من حيث العنوان في الأقل مكسبا كبيرا للثقافة العمانية، وللحوار الوطني المفترض بين المثقف والسلطة، ولتحليل العلاقة بينهما، بكل أنواعهما وأقصد هنا أنواع المثقف وأنواع السلطة. ولكن للأسف لم تحقق الندوة أبعد من ذلك، أي سطوة العنوان، وقوة اسم الضيف علي حرب، حيث كان التأريخ للظواهر هو المخرج الذي اختاره أغلبية مقدمي الأوراق للهروب من مأزق تحليل الحاضر، وتشريح قضاياه، وبيان جدلية العلاقة بين السلطة والمثقف أبدا، وتأزمها في بلادنا العربية في الوقت الراهن، وغياب دور المثقف في حلحلة هذه الأزمة، وصناعة حالة طبيعية من العلاقة بين المثقف والسلطة قائمة على النقد والمساءلة. وربما يعود ذلك كي لا يضع أحدهم الإصبع على الجرح، فيدخل في حرج مع السلطة، أو المساءلة من المجتمع والسلطة معا، فكان البعد عن الحاضر مسوغا لحتمية عدم مساءلة السلطة السياسية.
في حين تقدمت السلطة الدينية ـ القائمة على الانطلاق من الدين في كل مساحات التفكير والاحتكام لمداراته ونصوصه كقالب يوجه عملية التفكير، ويجعلها تنطلق من اتجاه واحد وتسير فيه ـ تقدمت بقوة في مواجهة كل السلطات (عبر معظم الأوراق المقدّمة) لتؤكد الأزمة الحضارية التي يعيشها العالم العربي في العميق منه، وهي أزمة غياب التعددية الفكرية، وعدم قبول الرأي الآخر خاصة ما يتعلق بالنقد الديني وفي أي مستوى منه، كالمستوى العام مثلا بعيدا عن الذات الإلهية والنص، فالدين في ثقافة عربية إسلامية متغلغل في كل مسام الحياة، ولذا أيضا أصبح كل مثقف يتجرأ على المساءلة فيه عرضة للتكفير والتجريم من السلطة الدينية التي تحكم قبضتها على السياسة والمجتمع والمثقف في آن. ولذا ليس عجبا أبدا أن نشهد اليوم الكثير من المحاكمات بتهمة جاهزة وغير محددة أو واضحة، ألا وهي تهمة «ازدراء الأديان» والتي سقط في فخاخها الكثير من المثقفين الأحرار (أشرف فياض، وفاطمة ناعوت، وإسلام البحيري، وحسن البشام) كنماذج فقط، تماما كما كانت تهمة ازدراء «الذات الحاكمة» فخ السلطة السياسية في عالمنا الممتد من المحيط إلى الخليج. وبالتالي على المثقف في العالم العربي اليوم أن يكون حذرا، أينما وضع قلمه فهناك منطقتان ملغمتان، وتهمتان جاهزتان تماما للنيل منه، خارج غنائيات الإعلام الرسمي الذي قدم نفسه في الندوة المذكورة آنفا كإعلام جماهيري، مع أنه أصبح إعلام أقلية، غير متابع تقريبا، ومنذ زمن انتقلت الراية للإعلام البديل أو الرقمي.
لقد أظهرت تلك الندوة تراجع دور المثقف أمام السلطة التي نجحت في صناعة حالة ثقافية مدائحية، موازية للحالة الثقافية العميقة المفترضة والغائبة وربما تفوقها، لأنها أي الثانية حرمت المنابر والجمهور. ولذا كانت جميع الأوراق تدور في فلك السلطة إما تمجيدا لها، أو مهادنة وبعدا عن نقدها حتى على سبيل الذم الذي يشبه المدح، أو المدح الذي يشبه الذم، فيما كانت هناك محاولة جادة وظاهرة من معظم الأوراق لمهاجمة المثقف وتهشيمه، وتجريمه، وتهميش أدواره الفكرية التاريخية والمعاصرة، استرضاءً للسلطة السياسية التي لم تطلب ذلك أصلا. ولعلها كانت تريد أن توجد حالة متوازنة من العلاقة بين المثقف والسلطة لا تقوم على العداء والتجريح فتغاير بذلك صورة السلطة السياسية القاتمة جدا في جميع أنحاء العالم العربي بمنح المثقف مساحة للحديث في أكبر الـ»تابوهات»، وهي العلاقة بالسلطة، فتسهل عمل هذه الندوات، ولكن حدث أن تكفل مثقف السلطة بتلميع الصورة بأكثر مما تحتمل.
فهل ربّت السلطة المثقف عميقا فأضحى خائفا متربصا ولديه رقابة على ذاته وسلطة أعظم من سلطتها، فأصبح يكيل المدائح المجانية بلا طلب، وينأى عن النقد مرعوبا، حتى في أوسع المساحات وأكثرها جرأة؟ أم هناك فعلا أنواع من المثقفين أبرزهم على الساحة الثقافية اليوم وأكثرهم حضورا وسطوعا مثقف السلطة، الذي استطال وتفرع وأصبح من القوة والظهور والتلوّن بحيث يشكل على الرائي البسيط تحديده وتفنيده؟
إن مثقف السلطة أخطر على الثقافة من السلطة ذاتها، لأن السلطة معروفة وواضحة في توجهاتها ومؤسساتها، وحدودها وخطوطها الحمراء في كل مكان، أما مثقفو السلطة فهم محسوبون على الثقافة بدءا وخاتمة، وهم متنوعو المشارب والتوجهات الفكرية، ومتغيرو المواقف، حسب الغايات والمقاصد أو حسب المحركات والدوافع. فبعض هؤلاء المثقفين يتحركون بلا وعي حقيقي، وبانحياز تام للسلطة، غير قائم على مبدأ أو فكرة أو قيمة، في حين يكون بعضهم يهدف لتحقيق ذاته، وتلميع صورته الثقافية عبر مرآة السلطة، للتحصّل على أكبر المكاسب من الثقافة والسلطة معا، متى سنحت له الفرصة.
وليس على مثقف السلطة أن يكون ضحلا أو هشا أو هامشيا، بل قد يكون من أقوى العقول وأكثرها رجاحة ووعيا، ولكن آية مثقف السلطة أنه يرضي السلطة التي ينتمي إليها مطلقا، حتى لو كان يدرك تماما أن الصواب يجانبها، وأن الحق في الطرف الآخر لغاية أو مصلحة يرتئيها أو ينتظرها. كما أنه لا يمكننا أن ندخل مثقف السلطة في التنوع الفكري والتعددية التي تفرضها الثقافة أصلا، لأن مثقف السلطة يأتي غالبا من كل التيارات والأفكار، ولكن انحيازه المطلق للسلطة، ورغبته في إرضائها، وكيل المديح لها، والتحدث باسمها على حساب ذاته ووعيه وفكره، هو سمته وعلامته الأولى، وبالتالي ذلك ما يصبغه ويميزه أكثر من أي تيار فكري ينتمي إليه.
وكنتيجة أظهرت الندوة من خلال الأوراق العمانية المقدمة في الأقل، وأغلب المداخلات والأسئلة ـ خارج الورقة الضيف، وهي ورقة على حرب، والتي كنا نعوّل عليها كثيرا، إلا أنها كانت مقتضبة، ومحاذرة أيضا، ربما لضيق الوقت أو احتراما للجهة المنظّمة، ولاحقا نشرت بعمقها الحقيقي في الملحق الثقافي لجريدة عمان ـ أظهرت مكونات الثقافة العمانية المحصورة بين سلطة الدين، وسلطة السياسة، وسلطة الإعلام الرسمي، وسلطة المجتمع، معلنة التباسا عميقا وجارحا في مفهوم الثقافة حتى عند النخبة، وبرهنت على غياب المثقف الحقيقي أو تغييبه، أو ابتعاده حرصا على مبادئه وثقافته من التشويه والمصادرة.
فمن هو المثقف؟ هل هو المبدع، أو الباحث أو القارئ الموسوعي أم رجل الفكر التنويري؟ أم المثقف الموضوعي الرافض؟ وهل المثقف الموسوعي والتنويري يمكنه إحداث تغيير في مجتمعات لا تقرأ، ولا تؤمن بدور المثقف أصلا، وبقدرته على التغيير؟ وهل يوجد في عصرنا وفي بلداننا الجائرة تحديدا مثقف موضوعي فعلا؟ وهل هناك من هو مستعد لدفع الثمن من جسده ونفسه مقابل أفكاره ورسالته التنويرية؟
وهل هناك فرق جوهري بين المثقف الثوري؟ والمثقف الموضوعي؟ وهل ينبغي أن يتغير دور المثقف الموضوعي اليوم من المواجهة الحادة مع السلطة ـ التي قد تنتهي به أسيرا في سجونها، لن يحقق من وراء ذلك كله غير فراغ في الدور، أو مجدا ذاتيا مازوخيا زائفا، ودمارا نفسيا وعضويا لا حقا ـ إلى النحت في الوعي الجمعي بهدوء وإصرار لتفتيت حزمة الجهل، وإقناع الشارع بدوره، ويدفعه لاحقا للإيمان به، وبالتالي يستمد من المجتمع شرعية التغيير ليضغط على السلطة؟ أسئلة تنخر الساكن، وتربك السائد، وتناوش المسكوت عنه، وتظل الإجابات مفتوحة على الوعي، الوعي الذي هو سلطة المثقف الحقيقي والذي عليه أن ينطلق من الأفكار الكبرى، الأفكار المطلقة، كالحرية والعدل والمساواة، والمواطنة والديمقراطية التي هي هدف المثقف الحقيقي، وغايته البعيدة عبر سلطة قلمه المشرِّح، وصوته الناصع، غير الموارب ولا المهادن لأي سلطة ومهما كانت المغريات.
كاتبة عُمانية
فمن هو المثقف؟ وما هو دوره في المجتمع؟ أسئلة ما تزال عالقة في الوعي العربي المرتبك بالمفاهيم التي تنمو وتتفرع دون أن تكون هناك أرضية جيدة لمحاورتها أو تحديدها، أو تحييد المتغيرات التابعة لها، والاحترازات المنبثقة خارجها، قبل تجاوز العالم لها، وبالتالي يحدث الكثير من الالتباس والخلط، الناتج عن التراكم غير الموضوعي في الكثير من المفاهيم.
هذا ما يخرج به المتابع بعد كل ندوة ثقافية تتناول الثقافة أو المثقف بكل تصنيفاتها، وأبعادها، وهذا ما خرجت به شخصيا من ندوة المثقف والسلطة التي أقامتها الجمعية العمانية للأدباء والكتاب بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2016، الندوة التي يحسب للجمعية إقامتها، وللسلطة السياسية السماح بها، بل تعد من حيث العنوان في الأقل مكسبا كبيرا للثقافة العمانية، وللحوار الوطني المفترض بين المثقف والسلطة، ولتحليل العلاقة بينهما، بكل أنواعهما وأقصد هنا أنواع المثقف وأنواع السلطة. ولكن للأسف لم تحقق الندوة أبعد من ذلك، أي سطوة العنوان، وقوة اسم الضيف علي حرب، حيث كان التأريخ للظواهر هو المخرج الذي اختاره أغلبية مقدمي الأوراق للهروب من مأزق تحليل الحاضر، وتشريح قضاياه، وبيان جدلية العلاقة بين السلطة والمثقف أبدا، وتأزمها في بلادنا العربية في الوقت الراهن، وغياب دور المثقف في حلحلة هذه الأزمة، وصناعة حالة طبيعية من العلاقة بين المثقف والسلطة قائمة على النقد والمساءلة. وربما يعود ذلك كي لا يضع أحدهم الإصبع على الجرح، فيدخل في حرج مع السلطة، أو المساءلة من المجتمع والسلطة معا، فكان البعد عن الحاضر مسوغا لحتمية عدم مساءلة السلطة السياسية.
في حين تقدمت السلطة الدينية ـ القائمة على الانطلاق من الدين في كل مساحات التفكير والاحتكام لمداراته ونصوصه كقالب يوجه عملية التفكير، ويجعلها تنطلق من اتجاه واحد وتسير فيه ـ تقدمت بقوة في مواجهة كل السلطات (عبر معظم الأوراق المقدّمة) لتؤكد الأزمة الحضارية التي يعيشها العالم العربي في العميق منه، وهي أزمة غياب التعددية الفكرية، وعدم قبول الرأي الآخر خاصة ما يتعلق بالنقد الديني وفي أي مستوى منه، كالمستوى العام مثلا بعيدا عن الذات الإلهية والنص، فالدين في ثقافة عربية إسلامية متغلغل في كل مسام الحياة، ولذا أيضا أصبح كل مثقف يتجرأ على المساءلة فيه عرضة للتكفير والتجريم من السلطة الدينية التي تحكم قبضتها على السياسة والمجتمع والمثقف في آن. ولذا ليس عجبا أبدا أن نشهد اليوم الكثير من المحاكمات بتهمة جاهزة وغير محددة أو واضحة، ألا وهي تهمة «ازدراء الأديان» والتي سقط في فخاخها الكثير من المثقفين الأحرار (أشرف فياض، وفاطمة ناعوت، وإسلام البحيري، وحسن البشام) كنماذج فقط، تماما كما كانت تهمة ازدراء «الذات الحاكمة» فخ السلطة السياسية في عالمنا الممتد من المحيط إلى الخليج. وبالتالي على المثقف في العالم العربي اليوم أن يكون حذرا، أينما وضع قلمه فهناك منطقتان ملغمتان، وتهمتان جاهزتان تماما للنيل منه، خارج غنائيات الإعلام الرسمي الذي قدم نفسه في الندوة المذكورة آنفا كإعلام جماهيري، مع أنه أصبح إعلام أقلية، غير متابع تقريبا، ومنذ زمن انتقلت الراية للإعلام البديل أو الرقمي.
لقد أظهرت تلك الندوة تراجع دور المثقف أمام السلطة التي نجحت في صناعة حالة ثقافية مدائحية، موازية للحالة الثقافية العميقة المفترضة والغائبة وربما تفوقها، لأنها أي الثانية حرمت المنابر والجمهور. ولذا كانت جميع الأوراق تدور في فلك السلطة إما تمجيدا لها، أو مهادنة وبعدا عن نقدها حتى على سبيل الذم الذي يشبه المدح، أو المدح الذي يشبه الذم، فيما كانت هناك محاولة جادة وظاهرة من معظم الأوراق لمهاجمة المثقف وتهشيمه، وتجريمه، وتهميش أدواره الفكرية التاريخية والمعاصرة، استرضاءً للسلطة السياسية التي لم تطلب ذلك أصلا. ولعلها كانت تريد أن توجد حالة متوازنة من العلاقة بين المثقف والسلطة لا تقوم على العداء والتجريح فتغاير بذلك صورة السلطة السياسية القاتمة جدا في جميع أنحاء العالم العربي بمنح المثقف مساحة للحديث في أكبر الـ»تابوهات»، وهي العلاقة بالسلطة، فتسهل عمل هذه الندوات، ولكن حدث أن تكفل مثقف السلطة بتلميع الصورة بأكثر مما تحتمل.
فهل ربّت السلطة المثقف عميقا فأضحى خائفا متربصا ولديه رقابة على ذاته وسلطة أعظم من سلطتها، فأصبح يكيل المدائح المجانية بلا طلب، وينأى عن النقد مرعوبا، حتى في أوسع المساحات وأكثرها جرأة؟ أم هناك فعلا أنواع من المثقفين أبرزهم على الساحة الثقافية اليوم وأكثرهم حضورا وسطوعا مثقف السلطة، الذي استطال وتفرع وأصبح من القوة والظهور والتلوّن بحيث يشكل على الرائي البسيط تحديده وتفنيده؟
إن مثقف السلطة أخطر على الثقافة من السلطة ذاتها، لأن السلطة معروفة وواضحة في توجهاتها ومؤسساتها، وحدودها وخطوطها الحمراء في كل مكان، أما مثقفو السلطة فهم محسوبون على الثقافة بدءا وخاتمة، وهم متنوعو المشارب والتوجهات الفكرية، ومتغيرو المواقف، حسب الغايات والمقاصد أو حسب المحركات والدوافع. فبعض هؤلاء المثقفين يتحركون بلا وعي حقيقي، وبانحياز تام للسلطة، غير قائم على مبدأ أو فكرة أو قيمة، في حين يكون بعضهم يهدف لتحقيق ذاته، وتلميع صورته الثقافية عبر مرآة السلطة، للتحصّل على أكبر المكاسب من الثقافة والسلطة معا، متى سنحت له الفرصة.
وليس على مثقف السلطة أن يكون ضحلا أو هشا أو هامشيا، بل قد يكون من أقوى العقول وأكثرها رجاحة ووعيا، ولكن آية مثقف السلطة أنه يرضي السلطة التي ينتمي إليها مطلقا، حتى لو كان يدرك تماما أن الصواب يجانبها، وأن الحق في الطرف الآخر لغاية أو مصلحة يرتئيها أو ينتظرها. كما أنه لا يمكننا أن ندخل مثقف السلطة في التنوع الفكري والتعددية التي تفرضها الثقافة أصلا، لأن مثقف السلطة يأتي غالبا من كل التيارات والأفكار، ولكن انحيازه المطلق للسلطة، ورغبته في إرضائها، وكيل المديح لها، والتحدث باسمها على حساب ذاته ووعيه وفكره، هو سمته وعلامته الأولى، وبالتالي ذلك ما يصبغه ويميزه أكثر من أي تيار فكري ينتمي إليه.
وكنتيجة أظهرت الندوة من خلال الأوراق العمانية المقدمة في الأقل، وأغلب المداخلات والأسئلة ـ خارج الورقة الضيف، وهي ورقة على حرب، والتي كنا نعوّل عليها كثيرا، إلا أنها كانت مقتضبة، ومحاذرة أيضا، ربما لضيق الوقت أو احتراما للجهة المنظّمة، ولاحقا نشرت بعمقها الحقيقي في الملحق الثقافي لجريدة عمان ـ أظهرت مكونات الثقافة العمانية المحصورة بين سلطة الدين، وسلطة السياسة، وسلطة الإعلام الرسمي، وسلطة المجتمع، معلنة التباسا عميقا وجارحا في مفهوم الثقافة حتى عند النخبة، وبرهنت على غياب المثقف الحقيقي أو تغييبه، أو ابتعاده حرصا على مبادئه وثقافته من التشويه والمصادرة.
فمن هو المثقف؟ هل هو المبدع، أو الباحث أو القارئ الموسوعي أم رجل الفكر التنويري؟ أم المثقف الموضوعي الرافض؟ وهل المثقف الموسوعي والتنويري يمكنه إحداث تغيير في مجتمعات لا تقرأ، ولا تؤمن بدور المثقف أصلا، وبقدرته على التغيير؟ وهل يوجد في عصرنا وفي بلداننا الجائرة تحديدا مثقف موضوعي فعلا؟ وهل هناك من هو مستعد لدفع الثمن من جسده ونفسه مقابل أفكاره ورسالته التنويرية؟
وهل هناك فرق جوهري بين المثقف الثوري؟ والمثقف الموضوعي؟ وهل ينبغي أن يتغير دور المثقف الموضوعي اليوم من المواجهة الحادة مع السلطة ـ التي قد تنتهي به أسيرا في سجونها، لن يحقق من وراء ذلك كله غير فراغ في الدور، أو مجدا ذاتيا مازوخيا زائفا، ودمارا نفسيا وعضويا لا حقا ـ إلى النحت في الوعي الجمعي بهدوء وإصرار لتفتيت حزمة الجهل، وإقناع الشارع بدوره، ويدفعه لاحقا للإيمان به، وبالتالي يستمد من المجتمع شرعية التغيير ليضغط على السلطة؟ أسئلة تنخر الساكن، وتربك السائد، وتناوش المسكوت عنه، وتظل الإجابات مفتوحة على الوعي، الوعي الذي هو سلطة المثقف الحقيقي والذي عليه أن ينطلق من الأفكار الكبرى، الأفكار المطلقة، كالحرية والعدل والمساواة، والمواطنة والديمقراطية التي هي هدف المثقف الحقيقي، وغايته البعيدة عبر سلطة قلمه المشرِّح، وصوته الناصع، غير الموارب ولا المهادن لأي سلطة ومهما كانت المغريات.
كاتبة عُمانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق