متسلّطون إلاّ…!
بروين حبيب
لا نفهم شيئا في علاقة غير متكافئة بين زوج وزوجته حين يدّعي الزوج أن
زوجته «متسلّطة»، فيما حسب معرفتنا بها ليست أكثر من سيدة ممسوحة الشخصية،
ضعيفة، ولا سند لها.
في الغالب نميل للتعاطف مع الزّوجة، لأنها ببكائياتها وبؤسها وشكاواها وتاريخها الذي قد يزيد من تأثرنا بما ترويه، نعتقد أنها مظلومة وأن الزّوج كذّاب. لكن هل فكّرنا للحظة أن كلام الزوج قد يكون صحيحا؟
نعم، لدينا حالة عجيبة نعاني منها وهي أننا نملك أفرادا كثيرين متسلطين وضعفاء جدا في الوقت نفسه. تماما كهذه الزوجة التي تنغّص حياة الزوج بشخصيتها المزدوجة، التي تجعله ظالما في أعين الناس، مع أنّه يعاني، وتجعل من نفسها الضحية في أعينهم، مع أنّها متسلّطة فعلا. هل هذا يعني أننا لا نعرف معنى كلمة متسلط؟ أم أنّنا لا نعرف حقيقة التسلُّط وأنواعه، وكيف يمكن لشخص ضعيف أن يفرض سلطته على شخص أقوى منه؟ الولد الذي يجعل أمّه تنتّف شعرها لأنه لا يسمع كلامها، لا يعني أنّه غبي أو لا يفهم، إنّه يفرض سلطته على أمّه التي قد تستعمل العنف لفرض سلطتها عليه وتفشل. صديقك الذي تقترح عليه مشروعا لعطلتكما معا، والذي يقترح أشياء بديلة لا تمت لشخصيتك بصلة ويشرح وجهة نظره على أنّها الصح، إنّما يفرض سلطته عليك، فالمتسلّط ليس دائما ذلك الشخص الذي يرفع صوته، ويلوِّح بعصاه مهددا، ويستعمل خطابا عنيفا ضدك.
المتسلّط قد يكون شخصا من أضعف خلق الله، ولكنّه يفسد حياة كل من حوله بطريقته في التّعامل معهم. تلك الزّوجة التي تحدثنا عنها في بداية المقال، سيدة ضعيفة في مفهوم الجميع، ولكنّها مع زوجها شخص آخر. يطلب منها أن يزوروا أمّه، فتجيب بطريقة لطيفة وصوت شبه غير مسموع: «والله أمك ما بتحبنا» أو «الأولاد ما يحبون أن يروحوا» أو أي إجابة أخرى فيها رفض وجواب نهائي لا يوحي بأن الموضوع قابل للمناقشة. قد يقول البعض أن الموضوع تافه وقابل للمناقشة. طيب تابعوا معي حين يتم ذلك:
الزوج: ليش أمي ما تحب الأولاد؟
الزوجة: والله اسألها، ترى الأولاد متضايقين منها، هي تحب أولاد أخوك.
الزوج: لا.. لا أنت غلطانة، أمي تحب كل أولادنا هي دعتنا للغداء عندها.
الزوجة: طبعا، تدعينا وتبوس أولاد أخوك وتدللهم وتحضنهم، وأولادنا تراقبهم، كيف ما يتحركون تصرخ: انتبه يا خالد تكسر المزهرية، يا دانا لا تمضغي الأكل مثل الحيوانات، يا حسن اعط الكرة لابن عمك هو أصغر منك… صراحة الأولاد مو ناقصهم قوانين وملاحظات.
في كل حديثها لا نجد جملة واحدة تقول فيها : «لا لن أذهب» ولكنها أغلقت كل أبواب الحوار ومصرّة على أن الذهاب لزيارة حماتها معضلة. هذا النوع من التسلُّط هو ربما الأعنف، لأنه يختفي خلف أقنعة ضعف. وهو أيضا تسلٌّط يلعب على الحبل العاطفي، له تأثيراته التّدميرية أحيانا، تصل حدّ الفتك بالطّرف الذي تعرض للهيمنة.
هل نحن متسلّطون حسب هذا المفهوم؟
في الغالب نحن كذلك، لقد قال السوسيولوجي إيميل دوركايم «الفرد صناعة المجتمع» ونحن في الغالب أبناء مجتمع متسلّط. صحيح أن مجتمعاتنا فقيرة عموما وبائسة ومهضومة الحقوق وتعيش على الهامش، ولكنّها مجتمعات متسلِّطة لديها قوانينها، وأعرافها وعقوباتها المرعبة، والشاطر ابن الشاطر من تسَوّل له نفسه أن يكسر تلك القوانين والأعراف. إذ تبلغ بمجتمعاتنا الجرأة على أن تضع نفسها محلّ الله، وتملي على الفرد ما يجب فعله مُدَّعية أن الله هو من يريد ذلك، بل تتمادى في إنزال أقسى عقوبة به ملفّقة ذلك لله. الفرد الذي يغيب صوته وسط جماعة لا تعرف لغة الحوار، فرد يُدَرّب على سلْك الدّرب نفسها. واتخاذ العنف والتسلُّط طريقة لفعل أي شيء.
هل نعلّم أبناءنا لغة الحوار أم لا؟ بالطبع لا، فمن قواعد تربيتنا أننا نعلمهم أن رب البيت هو الأب، وأن الأسرة يجب أن يكون لديها ربٌّ واحد. إلغاء دور الأم هنا له تبعاته الخطيرة، لأن غياب الأب لظروف معينة يعني تمرّد الأبناء على والدتهم.
الشراكة في اتخاذ القرارات بين الأم والأب هي أول درس للأولاد عن الحوار، شرط ألا يكون حوارا للطرشان كالذي عرضته سابقا لزوجة متسلّطة تتخفى في ثوب امرأة ضعيفة. لغة الحوار لا تعني من سيغلب في الأخير، ولكنّها تعني كيف يمكن اتخاذ قرار يفيد جميع الأطراف. لا جحيم في هذه الحياة أكثر من الحياة مع شخص متسلّط، لا يقبل سوى أن تكون كلمته الأخيرة. ويرفض رفضا باتًّا أن يصغي للآخر. أكثر من ذلك يجتاحك الشخص المتسلّط شيئا فشيئا، فتحاول في البداية أن ترضيه عسى أن يسكت، أو يتنازل، ولكن الذي يحدث أنّه لا يتوقف عند حدّه، فكلما وافقت على إرضائه تمادى وبدأ بتحويلك إلى كائن يشعر بالنقص حيال نفسه. تتقلّص كلما زاد من تسلٌّطه، لأنه يخدعك بطريقة ذكية ليجعلك تشك في قدراتك، فكل شيء تقوم به يبدو له غير متقن، ما يجعلك تشعر بالفشل، وهذا بالضبط ما يحوّل حياتك إلى جحيم.
وشخص كهذا في حياتك قد يحطمك إن لم تضع له حدًّا. والمصيبة حين يكون هذا الشخص في حياتنا الأب أو الأم أو الأخ الأكبر. وأعتقد أن هذه مصيبة مجتمعنا كله.
هل يمكن أن يدرك المتسلّط أنه يفقدك أعصابك وثقتك بنفسك؟
بالطبع لا، لأنه في اعتقاده أنّه يرى الأمور أفضل منك، وهو موجود في حياتك لتوجيهك لتحقق النجاح الذي يريد. وحين تنعكس الأمور وتنكسر العلاقة التي بينكما فإنّه يصب اتهاماته ضدك ثم يتهمك بصراحة جارحة أنك شخص عديم الفائدة.
قبل بلوغ هذه المرحلة يمكن إنقاذ نفسك، ومن السهل، يقول أحد الخبراء النفسيين، أن يصورك أحد مع شريكك المتسلّط على شكل فيديو، ثم تعرض الفيديوعلى هذا الشريك ليرى نفسه. هذه الطريقة تعتبر الأكثر تأثيرا ونفعا، تليها المقاطعة لفترة قصيرة لسببين، أولهما أن ترتاح من تسلط الآخر عليك، وثانيا لتفهمه عن بعد أنك تعبت من تصرفه الأرعن نحوك. إذ يبدو أن المقاطعة أيضا لها تأثيرات إيجابية لردع المتسلّط، والتقليل من تدخلاته في حياتك وصب الأوامر عليك صبا. ولأن الموضوع عميق ولا يمكن تناوله بشكل سطحي، أكتفي بعرض أهم سبب من الأسباب التي تجعل الشخص متسلّطا، وهوعدم الثقة بالنّفس، إضافة إلى فقدان الكاريزما.. لهذا على الواقع تحت سلطة أحد هؤلاء أن ينظر إليه على أنّه إنسان أضعف منه، ولا يستحق العناء لإرضائه.
أما الشيء الأهمّ في عالم الثقافة والأدب والإعلام والفن في بلداننا المباركة، فهو أن المتسلّطين كارثتنا العظمى. مع أن المتسلط ليس أكثر من شخص يرتعب خوفا من أن يمسحه أحدهم بإبداعه، فيعمل على محاربتهم بطرق مشبوهة بعيدة عن أخلاقيات المهنة. هذا المرض متفشٍّ بكثرة في عالمنا العربي، لأن أغلب المناصب استولى عليها «متسلقون» فباتت الثقافة في حضيض المشهد الثقافي، وبات «المثقف الحقيقي» في مستنقع ذلك المشهد، وباتت الواجهة لأشخاص يحملون سوطا بدل القلم ويجلدون أغلب من يحيطون بهم.
وللحديث بقية أن شاء الله…
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق