عشت
تجربة فريدة في عالم القراء من كل الأعمار في دبي مؤخرا، عشت حلما فائق
الروعة تحقق على أرض الواقع وأدركت من خلاله أن القارئ هو الآخر يحتاج
لفضاء من الحرية والتشجيع، أولا ليقرأ وثانيا ليعطي رأيه ويمنح الكتاب حياة
ثانية، ويخلق تلك الحركة التي تشبه الدورة الدموية التي تحافظ على حياة
الكُتّاب والشعراء وصناع الكتاب.
إن لم يحصل القارئ على هذه الفسحة فلن
يكون قارئا فعّالا، بقدر ما ينطفئ فيه فعل القراءة شيئا فشيئا. وبالمناسبة
علينا أن لا نتجاهل جحافل القراء في العالم العربي خلال القرن الماضي،
والسجالات التي كانت تفتح ولا تنتهي حول ما ينشر وما يقال. والجرائد التي
كان لها سلطة توازي سلطة من يتربعون على عروش الدولة.
علينا أن نتذكر
أنفسنا ونحن نتنافس حول من قرأ أكثر، ومن اكتشف القصة الأجمل ونحن بعد في
عمر الفراشات. علينا أن نستعيد تلك المشاهد البديعة ونحن نحضن الكتب إلى
صدورنا متحمسين لقراءة المزيد.
من صنع نزار قباني ومحمود درويش وكل
الكبار في الزمن الذي مضى إن لم نكن نحن قرّاء تلك المرحلة؟ وتلك المرحلة
ليست بالبعيدة جدا عن الزمن الحاضر، لكن شيئا ما حدث وأفقد القارئ حماسه
ليواصل فرض سلطته على المكتبات والناشرين والمؤلفين أنفسهم.
قرائي
الصغار الذين التقيتهم مؤخرا كانوا مدهشين في أحاديثهم، في طريقتهم السليمة
لقراءة نصوص قاموا باختيارها، وكأن ما حدث لهم شبيه بيقظة الأرض في الربيع
بعد سبات الشتاء. كلهم لا فرق بينهم وبين أزهار صغيرة تشق الصّخر وتخرج
للسطح. كان ربيعا خارقا، مليئا بالسحر الذي ظننته منذ فترة قريبة أنه لن
يتحقق.
هل هناك من قام بحملة قراءة شبيهة بهذه من قبل؟ لعلّ إعلاميين
وكتابا قاموا بحملات فردية على مستوى مدنهم لكنها حملات متواضعة لم تكسر
الحدود الفاصلة بين الكتاب والمجتمع، ولم تخترق أسوار الجهل التي تسيج مدنا
بأكملها إن لم نقل أمما بكاملها.
هذا «القتال» الذي يقوم به البعض من
أجل نشر ثقافة القراءة يواجهه عدد هائل من الانهزاميين يقومون بوعي أو بلا
وعي بردع كل الطاقات الإيجابية وتحطيمها، ولعل هذا السلوك يحتاج للدراسة
قبل الانطلاق في حملات القراءة المماثلة لحملة دبي التي أطلقها ورعاها
الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. والحديث عن دبي حديث يثير غيرة الكثيرين، إذ
يعتقدون أن هذه المدينة ليست أكثر من صورة لا تعكس الواقع الحقيقي لها أو
خلفيتها الأساسية، لكن من لم ير فرحة الناجحين في مشروع تحدي القراءة
العربي فهو فعلا لم ير الوجه الحقيقي لدبي وللإمارات كلها. حين يفوز طفل
بجائزة القراءة مقدارها 150 ألف دولار وهي تفوق قيمة الجوائز العربية
مجتمعة لمكافأة كاتب على إبداعاته فإن الأمر يقلب الأمور كلها لصالح
الكتاب. والمعضلة ليست في ضخامة الرقم، بل في الرقم الذي خصص للقارئ، لأن
القارئ هو الذي يصنع الكتاب.
حين تفوز مدرسة بمليون دولار قيمة جائزة
القراءة وهي جائزة بحجم « نوبل» فإن كل الأفكار التي حاولت تشتيتنا سابقا
بشأن دور الإمارات الحضاري تسقط وتتلاشى ولا يبقى أمامنا إلا هذا الحماس
العارم الذي يتوهج في داخلنا لنتشبث بالكتاب مجددا.
وأنا أعلن أسماء
الفائزين من على خشبة مسرح الأوبرا بحضور رسمي لأول مرة لقائد عربي يسخر
المال من أجل مشروع تنويري نهضوي عبر مبادرة إنسانية مذهلة هي مبادرة تحدي
القراءة العربي التي أطلقها ورعاها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم… تهميش
القارئ ربما لم يأت بقرار سياسي واضح، ولكنه حتما كان قرارا اتفق عليه
الجميع من تحت الطاولة وتم تعميمه لإطفاء شعلة النور في عقول أبنائنا،
وأعتقد أن فكرة اتخاذ قرار بشأن إعادة القراءة إلى واجهة الإهتمامات
الإنسانية لدى المواطن العربي تجربة أثبت نجاحها الشيخ محمد ووجب اليوم
اتباعها.
إن كان الطفل استطاع أن يقرأ خمسين كتابا خلال سنة مع وجود كل
مغريات اللهو أمامه مع اختلاف ظروف معيشته عن معيشة غيره فإن تحدي القراءة
ممكن. ممكن في الجزائر، والمغرب والأردن والسعودية والبحرين وفي كل شبر من
عالمنا العربي، لأن الجائزة لو توّجت إماراتيا لقيل إن الفائز بها يعيش في
رخاء وكل شيء متوفر له. الفائز الجزائري قدم إلى دبي من مدينة قسنطينة
الشهيرة، وبالصدفة هذه المدينة تشتهر أيضا بعلمائها وفنانينها وتسمى مدينة
العلم والعلماء وقد أخبرتني صديقتي فضيلة الفاروق أن لها زملاء دراسة أيام
كانت طالبة في الثانوية ثم بعدها في الجامعة في هذه المدينة، كانوا يقضون
الليل على الأرصفة تحت أعمدة الكهرباء ليقرأوا لأن شققهم صغيرة وضيقة ولا
حلّ لهم حين ينام الجميع سوى الخروج بعد إطفاء الأنوار، واللجوء لأضواء
الشارع لإتمام القراءة.
ترى هل تغيرت ظروف القارئ في تلك المدينة أم
أنها لا تزال نفسها؟ يبدو لي أن الظروف مهما كانت سيئة أو جيدة فهي لم تغير
شغف القارئ ولم تسحبه بعيدا عن الكتاب. لقد قفزت هذه الحكاية إلى رأسي
وأنا أتأمل الطفل محمد وهو يتكلم بطلاقة وبنضج مخاطبا الجمهور الحاضر في
قاعة الأوبرا وبعدها جمهور الإعلاميين المعجبين بفصاحته. كما تأثرت جدا
بشكل لا يمكن وصفه بلغة حين سمعت صرخة الفرح من تلاميذ مدرسة الأمل في
فلسطين، ترى كيف تجاوز الأطفال مآسي وطنهم بالقراءة؟ كيف تخطوا رعب اللاأمن
واللااستقرار؟ كيف حققوا هذا النجاح فيما غيرهم ينعم بنعمٍ كثيرة ولا يجد
رغبة في اقتناء كتاب مرة كل شهر لقراءته؟ أسئلة كثيرة انفجرت في رأسي وصنعت
ضجيجا بحجم ضجة الفرح التي عشتها مع جمهور واسع من القراء، أثبتوا بجدارة
أن الجميع يحب القراءة… وحتى لا أبالغ سأقول إن حب القراءة فطري في
الإنسان، فكل الأطفال يعشقون الكتاب، ولكن استمرارية هذه الهواية تبقى
مرتبطة بالأهل ونمط التربية الذي يقدمونه لأولادهم. ونوع الأجواء العامة
التي تحيط بهم في المدارس والشوارع والمكتبات العامة والإعلام بكل أنواعه.
تجربة
الإمارات خلال عام القراءة تجربة أكدت كل هذه الفرضيات، وأكدت أيضا أن بعض
الأمور التي نعتبرها صعبة ولا تتحقق بقرار سياسي إنما يمكن تحقيقها، شرط
أن يكون القرار صادرا عن الشخص الصح، شخص في منتهى الرقي والشفافية، متشبع
بالثقافة وحب الفنون وتذوقها، ويعشق شعبه ويتمنى الخير لكل فرد من أفراد
وطنه، ولعل مبادرة الشيخ محمد التي حوّلت الحلم إلى حقيقة ممكنة ستفتح
أبوابا أخرى أمام القارئ العربي، ليقرأ ويضيء فوانيس المعرفة حيثما يكون …
في
داخل تلك الحديقة العربية المزهرة التي رأيتها بعيني ولمستها بيدي وروحي
أدركت أن الرّبيع الحقيقي لهذه الأمة صنعه الشيخ محمد، والآن ننتظر من يرعى
تلك الحديقة وتلك الأزهار لتعطي ثمارها أينما كان، ومن يدري قد ننتج نحن
أيضا جائزة قراء تُقيِّم الكتاب والشعراء خارج لجان التحكيم التي لم تعد
ترضي أحدا. وقد ننتج ما هو أكبر بالتأكيد.
شاعرة وإعلامية من البحرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق